إن المقام لا يتَّسع لحديث مُفصَّل عن معالم المشروع الإسلامى للنهضة الحضاريَّة، كما صاغه الإمام الشَّهِيد، لحركة الصحوة الإسلامية المعاصرة ممثلة فى "جماعة الإخوان المسلمين"، فإننا نقف هنا عند "عناوين" أمَّهات المسائل فى هذا المشروع، وهى"عناوين" شاهدة على شمول المشروع للإجابات الإسلامية عن أهم التحديات وعلامات الاستفهام التى تمثِّل أبرز العلل والمخاطر والتحديات. وأقول للقارئ الكريم، يجب أن نُركِّز جيدًا على كل ما وَرثناه عن هؤلاء الأئمة الأعلام الذين وهبوا علمهم وجميع قدراتهم خدمة لهذا الحق، كما وهبوا أيضًا حياتهم فداءً لأمتهم، فوقفوا بالمرصاد يُدافعون عنها وعن دينها وعن حياتها كلها، فشقُّوا الطريق وفتحوا الأبواب أمامها لمستقبل كريم عزيز، ووصلوا الماضى المجيد بالحاضر الكريم، وما كانوا ليناموا الليل ولم يعرفوا الراحة، ثم أقبلوا على الله تعالى تُشيِّعهم الملائكة ويبكى عليهم من عرفوهم ومن لم يعرفوهم حبًّا لهم واعترافًا بفضلهم. فى مواجهة التغريب: ففى مواجهة "التغريب" الذى اخترق عقل الأمة، وغدا له أنصار من بين أبنائها.. يقف مشروع الأستاذ البنَّا ليقول: "إن الحضارة الغربية، بمبادئها المادية، قد انتصرت فى هذا الصراع الاجتماعى على الحضارة الإسلامية، بمبادئها الإسلامية القومية الجامعة للروح والمادة معًا، فى أرض الإسلام نفسه، وفى حربٍ ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت فى الميدان السياسى وأثره فى تنبيه المشاعر القومية، وكان لهذا الطغيان الاجتماعى أثره كذلك فى انتعاش الفكرة الإسلامية، إن مدنيَّة الغرب التى زَهَت بجمالها العلمى حينًا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأُمَمه، تُفْلس الآن وتنتحر!.. فهذه أصولها السياسية تُقوِّضها الديكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات،وأصولها الاجتماعية تقضى عليها المبادئ الشَّاذَّة والثورات المندلعة فى كل مكان، وقد حار الناس فى علاج شأنها وضلوا السَّبيل!.. ونحن نريد أن نُفكِّر تفكيرًا استقلاليًّا، يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التى جعلتنا نتقيَّد بنظريات الغرب واتجاهاته فى كل شىء، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمَّة عظيمة مجيدة تجرُّ وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد. ولقد كان رفض "التغريب" فى مشروع الأستاذ البنَّا؛ رفضًا "للتقليد والتبعية"، ولم يكن رفضًا "للتفاعل الصحى" بين الحضارات.. ولا دعوة "للعزلة والانغلاق والانكفاء الذاتى!"، فهو الذى يقول عن حضارتنا الإسلامية، وأمتنا الإسلامية: "لقد اتَّصلَت بغيرها من الأمم، ونقلت كثيرًا من الحضارات، ولكنها تغلَّبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعًا، فعرَّبتها أو كادت واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيهما من روعة وحيويَّة وجمال، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعًا، من غير أن يؤثر ذلك فى وحدتها الاجتماعية أو السياسية. وفى مواجهة "التخلف الموروث" وتيارات "التقليد" لهذا "التخلف".. دعا حسن البنَّا إلى "التجديد"، وحدَّد، فى صراحة ووضوح، أن دعوته واحدة من "الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب"، وطالب -فى النظرة النقدية للتراث والتاريخ- بالتمييز بين "الدِّين الثابت" و"الفكر المتغير" "والممارسات البشرية".. ذلك "أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن كثيرًا من الآراء والعلوم التى اتصلت بالإسلام وتلوَّنت بلونه تحمل لون العصور التى أوجدتها والشعوب التى عاصرتها؛ ولهذا يجب أن تستقى النظم الإسلامية التى تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافى، معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح، رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربَّانية النبوية؛ حتى لا نُقيِّد أنفسنا بغير ما يُقيِّدنا به الله عز وجل، ولا نلزم عصرنا بلون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء!..". وقف موقفًا نقديًّا من تاريخ الدولة الإسلامية، عندما حدَّد العوامل السبعة التى أدت إلى تحلُّل كيانها، وهى: 1- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه. 2- الخلافات الدينية والمذهبية. 3- الانغماس فى ألوان التَّرف والنَّعيم. 4- انتقال السلطة والرِّياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخرى، والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم معانيه. 5- إهمال العلوم العلمية والمعارف الكونية وصرف الأوقات وتضييع الجهود فى فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة. 6- غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوَّتهم، وإهمال النظر فى التطوُّر الاجتماعى للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم فى الاستعداد والأُهْبَة وأخذتهم على غرَّة. 7- الانخداع بدسائس المتملِّقين من خصومهم والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع فى تقليدهم فيما يضرُّ وينفع. وفى مواجهة الذين اكتفوا من مقاصد "الاستقلال" بالاستقلال "السياسى"- الذى يقف عند "العَلَم والنَّشيد"، دعا حسن البَنَّا إلى "الاستقلال الذى يُحقِّق سيادة الأمة؛ لأن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال، فضلاً عن السيادة والجهاد، ولو كلَّفهم ذلك الدم والمال، وإلى الاستقلال الاقتصادى –للأمة- وليس لقطر واحد من أقطارها، فالهدف هو تحقيق نظام اقتصادى استقلالى للثروة والمال والدولة والأفراد والنَّقد.. ذلك أن الرابطة بيننا وبين أمم العروبة والإسلام تمهِّد لنا سبيل الاكتفاء الذاتى والاستقلال الاقتصادى، وتُنقذنا من هذا التحكم الغربى فى التصدير والاستيراد وما إليهما.."، وإلى"الاستقلال الحضارى" الذى يُعيد لأمة الإسلام وحضارته ومكانة الإمامة للدنيا وموقع الشهود على العالمين "فلقد كانت قيادة الدنيا فى وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوَّات إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى، ونهض الغرب نهضته الحديثة، فورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يتبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية، يُظلُّها لواء الله سبحانه، وتخفق على رأسها راية القرآن الكريم، ويمدّها جند الإيمان القوى المتين، فإذا الدنيا مسلمة هانئة وإذا بالعوالم كلها هاتفة: }الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِى لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ {[الأعراف: 43]. إنه استقلال الحضارة "المتميزة" لا "المنغلقة" ولا "التابعة" ذلك أن "الإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع، وأن نأخذ الحكمة أنَّى وجدناها، ولكنه يأبى أن نتشبَّه فى كل شىء بمن ليسوا من دين الله فى شىء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه؛ لنجرى وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين". وفى مواجهة المضمون الغربى، الضيق الأفق والانعزالى، لكُلٍّ من "الوطنية" و"القومية".. يقدِّم مشروع الأستاذ البنَّا الصيغة التى تحقِّق الانسجام بين درجات الانتماء: الوطنى والعربى والإسلامى والإنسانى.."فالإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة.. ومصر هى قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه.. وفى المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ونحن نرجو أن تقوم فى مصر دولة مسلمة تحتضن الإسلام، وتجْمَع كلمة العرب وتعمل لخيرهم، وتحمى المسلمين فى أكناف الأرض من عدوان كل ذى عدوان، وتنشر كلمة الله تعالى وتبلغ رسالته، فالمصرية لها فى دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها فى الكفاح والنضال، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام، ولخير العالم كله".