ضرب الشعب المصرى مثلًا رائعًا فى أثناء ثورته المجيدة فى يناير 2011 فى التضحية والتجرد والوحدة والوطنية، وظلت هذه الروح العالية بعد سقوط النظام الفاسد، فتجلت فى إنكار الذات، والحرص على المصالح العليا، وتشكيل اللجان الشعبية للدفاع عن البلاد، والدعوة إلى مكافحة الفساد، وإعادة البناء على قواعد سلمية نظيفة. ومع سقوط النظام سقط معه دستوره وبرلمانه وحكومته ومجالسه المحلية، وتولى الأمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكان لا بد من إعادة بناء المؤسسات الدستورية ووضع دستور جديد، والتوجه إلى تطهير المؤسسات الحكومية وإعادة البناء فى ظل الروح الوطنية الرائعة التى سادت إبان الثورة وبعدها، إلا أن هناك مجموعة من النخبة العلمانية راحوا يستعجلون تغيير هوية الأمة وينادون بحذف النص على الشريعة الإسلامية فى الإعلان الدستورى، بل ذهب أحدهم إلى المطالبة بحذف الإسلام نفسه كدين رسمى للدولة، الأمور التى استفزت غالبية الشعب من أجل الدفاع عن دينه وشريعته وهويته، وكان هذا أول شرخ فى جدار الوحدة الوطنية، وبدلا من التفكير فى البحث عن حلول لمشكلات الوطن الخطيرة بدأ الجدل حول الدولة المدنية والدولة الدينية، فى حين أن الأخيرة لم تكن مطروحة على برنامج أى حزب أو جماعة، وجرى الاستفتاء على التعديلات الدستورية ثم انتخابات مجلس الشعب ومجلس الشورى، وظهر تأييد غالبية الشعب للإسلاميين، الأمر الذى أثار حفيظة العلمانيين واليساريين، وراحوا يعمقون الشرخ، يدعمهم فى ذلك إعلام يمتلكه رجال أعمال من الحزب الوطنى والعلمانيين، وظلوا يهاجمون مجلس الشعب حتى قامت المحكمة الدستورية بحله فى حكم غريب مريب، وجرت انتخابات الرئاسة وانحاز عدد من أولئك العلمانيين إضافة إلى رجال الحزب الوطنى إلى مرشح النظام البائد كراهةً فى المرشح الإسلامى، وانهمرت الأموال من الداخل والخارج لشراء الأصوات لصالح الفريق شفيق، إلا أن وعى الشعب المصرى وحرصه على ثورته أديا إلى نجاح الدكتور محمد مرسى- بفضل الله- وهذا النجاح عمق الانقسام فى الصف الوطنى؛ لأن العلمانيين واليساريين يرفضون وصول الإسلاميين إلى الحكم ولو كان ذلك بإرادة الشعب الحرة فى انتخابات نزيهة! ومن هنا بدأت معركة الإفشال، وهذا ما كتبه الدكتور وحيد عبد المجيد فى جريدة الأهرام، حيث قال ما معناه إن المخالفين للإخوان المسلمين ليسوا معنيين بتقديم أنفسهم كبديل للشعب كى ينتخبهم ولكنهم ينتظرون فشل الإخوان بل يسعون إلى إفشالهم، وراح الدكتور عمرو حمزاوى يستقوى بالحكومة الأمريكية والكونجرس والاتحاد الأوروبى والبرلمان الأوروبى والمنظمات المدنية فى الغرب من أجل الضغط على الإسلاميين، بل على الدكتور مرسى، ويدعوهم إلى التهديد بقطع المعونات والدعم المادى ما لم يتم إصدار دستور على هوى أولئك جميعًا. وبدأ مخطط استنزاف الدولة وتفتيت المجتمع ونشر الفوضى وإلهاء المجتمع عن البناء بالمظاهرات العنيفة التى تمارس البلطجة والقتل والتخريب والحرق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أداروا معركة لإسقاط الجمعية التأسيسية من أجل عدم إصدار دستور للبلاد فتظل البلاد فى حالة فراغ دستورى وفوضى مجتمعية، شاركهم فى ذلك قوى دولية وسفاراتها فى مصر؛ فانسحبوا من الجمعية التأسيسية، وضغطوا على آخرين فاستجاب لهم البعض وانسحبوا ورفض البعض وثبتوا، وتم إنجاز الدستور، وتمت الموافقة عليه بفضل الله، وعلى الفور تحولوا إلى محاولة الإفشال عن طريق التشكيك فى الأوضاع الاقتصادية، وقد خلَّفها النظام السابق متردية، حتى يزيدوا المشكلة تعقيدًا وكلما انخفض سعر الجنيه فى مقابل العملات الأجنبية كلما ازداد فرحهم وشماتتهم، وكلما وقعت حادثة فى مرفق من المرافق زادت نشوتهم وشماتتهم. وعلى الرغم من أننا الآن على أبواب انتخابات جديدة لمجلس النواب إلا أننا نسمع دعوات إلى مظاهرات تستهدف إسقاط النظام وإسقاط الدستور وحل الحكومة مغلفة بدعوة للقصاص للشهداء، ودعوات لاستخدام العنف والاعتصامات التى تعطل مصالح الناس وتهدد أمنهم، فى حين أن مصر الآن تحتاج إلى هدوء واستقرار وعمل وإنتاج وصبر وأناة وبذل التضحية ووحدة وطنية حتى تعبر هذه الأزمة بسلام، وهذا ما دعت إليه جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة وما تعمل به الآن. والخلاصة أن ما تحقق من أهداف الثورة حتى الآن هو إسقاط النظام السابق ورموزه ومحاكمتهم ووضعهم فى السجون بأحكام قضائية، وإسقاط مؤسسات هذا النظام، وإجراء انتخابات برلمانية حرة لمجلسى الشعب والشورى شارك فيها ما يزيد على ثلاثين مليونًا من المصريين لأول مرة فى التاريخ، ثم انتخابات رئاسية ديمقراطية، ثم القضاء على ازدواجية السلطة بإحالة المشير والفريق عنان إلى التقاعد، وإعادة الباقين إلى دورهم الطبيعى الجليل فى حماية الوطن، وإقرار الدستور فى استفتاء شعبى مشهود، وهذا ما تم على مستوى التحول الديمقراطى، إضافة إلى الحريات العامة التى يتمتع بها الأفراد والأحزاب والإعلام والتى تستخدم للأسف من قبل البعض استخدامًا سيئًا وكذلك حرية إنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، وإلغاء حالة الطوارئ التى ظلت مفروضة لمدة ثلاثين عامًا، وتشكيل لجنة تقصى الحقائق فى وقائع قتل المتظاهرين تمهيدًا لمحاكمتهم محاكمة عادلة بعد أن تم طمس كثير من الأدلة، وذلك من أجل تحقيق القصاص للشهداء والجرحى، كما أن المبادئ العظيمة التى تضمنها الدستور الجديد فى مجالات الحقوق والحريات العامة، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وقصْر مدة حكمه على أربع سنوات تجدد لمدة واحدة أخرى إذا أعيد انتخابه، والمكاسب الاجتماعية والاقتصادية التى أفردها هذا الدستور للمواطنين، والتى تحتاج إلى استقرار ووقت لتفعيلها على أرض الواقع، وكذلك رفع مرتبات فئات عديدة من العاملين ووضع الديون عن الفلاحين المدينين. وطرح مشروعات قومية عملاقة تحتاج أيضًا إلى استقرار وتمويل وصبر لمكافحة البطالة والفقر والأمن وتطهير بعض مؤسسات الدولة من الفاسدين تطهيرًا جزئيًا، وتوفير الأمن بشكل نسبى وتحسين التعليم أيضًا بشكل نسبى إضافة إلى الاهتمام بالسياسة الخارجية وتحسين العلاقات مع عديد من الدول على رأسها الدول الإفريقية ودول حوض وادى النيل بصورة أخص، والاستقلال الوطنى عن التبعية للولايات المتحدة، وانتهاء فترة العلاقات المتميزة مع إسرائيل، والبدء فى استعادة المكانة الإقليمية لمصر فى المنطقة. أما ما لم يتحقق حتى الآن فهو توفير الأمن الكامل فى ربوع البلاد، وتطهير أجهزة الدولة من الفساد، فالدولة العميقة تضرب فى جذورها، وإصلاح المرافق العامة نتيجة عدم وجود الأموال اللازمة نظرًا للنهب المنظم الذى قام به النظام البائد، وكذلك لم يتحقق رفع مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية لكثير من الأفراد، وبقاء مستوى البطالة، وتسرب جزء كبير من الدعم إلى غير مستحقيه. وللتغلب على ذلك ينبغى أن نؤمن جميعًا أننا فى سفينة واحدة، على أن نحافظ على سلامتها وندفعها للإبحار، وألا نستجيب لمخططات إسقاط الدولة التى تحرض عليها وتنفذها قوى عديدة، بعضها خارجى بالتخطيط والتمويل والتحريض، وبعضها داخلى بالتنفيذ. علينا أن نحترم الشعب والإرادة الشعبية باعتباره صاحب السيادة ومصدر السلطات، أما ما نسمعه من كبار السياسيين والعلمانيين من أنهم لن يسمحوا بإجراء الاستفتاء على الدستور وحتى لو أقره الشعب، لن يعترفوا به وسوف يسقطونه، فهذا هو السقوط بعينه، ينبئ أيضًا عن عدم احترام القواعد الديمقراطية التى يدّعون الانتساب إليها والتمسك بها، كذلك ينبغى إدانة استخدام العنف فى العمل السياسى إدانة صريحة والتصدى له بكل الوسائل القانونية وعدم توفير الغطاء السياسى له، ثم التوجه إلى العمل والبناء والتعمير والمنافسة فى هذا المجال ورعاية مبادئ الشرف والأخلاق والأمانة فى المنافسة السياسية.