لكى نقيم نظاما إعلاميا يليق بمصر وبدورها الحضارى والعربى والإنسانى يجب أن نحاكم النظام الإعلامى الذى أقامه نظام مبارك الاستبدادى. وهذه المحاكمة يجب أن تقوم على دراسة علمية تصف الواقع وتفسر النتائج، فالعلم يجب أن يشكل أساسا لبناء المستقبل الذى لا يمكن أن يتم بناؤه على أسس صحيحة دون دراسة حقيقية للماضى. ومحاكمة النظام الإعلامى المصرى يجب أن تنطلق من أن الفساد لا يقتصر فقط على نهب أموال مصر بواسطة السلطة ورجال الأعمال الذين ارتبطوا بها، لكن مفهوم الفساد يتجاوز ذلك ليشمل الفساد السياسى مثل تزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية وتضليل الشعب وتزييف وعيه وإخضاعه للاستبداد وتبرير قرارات السلطة والترويج لها، وتصنيع صورة زائفة لنظام حكم فاسد. وهنا يظهر دور وسائل الإعلام التى سيطرت عليها السلطة واستخدمتها طوال ثلاثين عاما للسيطرة ثقافيا وإعلاميا على الشعب، والتحكم فى المعلومات والمعرفة التى تصل إليه. وأهم ما يمكن أن تكشفه دراسة الواقع الإعلامى المصرى أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر، ففى الوقت الذى تكافح فيه كل دولة لزيادة قوتها الإعلامية، وزيادة عدد وسائلها الإعلامية، وتقوية صناعة المضمون حيث تربط شعبها بثقافتها، وتشبع الاحتياجات الإعلامية والمعرفية لشعبها، فإن نظام مبارك كان كل هدفه أن يتحكم فى المعلومات والمعرفة التى تصل إلى الجماهير بنفس الأساليب التى استخدمتها السلطات الديكتاتورية خلال الخمسينيات والستينيات دون وعى بالتطورات العالمية فى مجال الإعلام، ودون الاهتمام بتأثير التحكم السلطوى على القوة الإعلامية لمصر. هذا يعنى أن كل قيد على حرية الإعلام يمكن أن يؤثر سلبيا على القوة الإعلامية للدولة، لذلك فإنه لا يجوز فرض أى قيود قانونية أو سلطوية دون شرعية سياسية واجتماعية لهذه القيود. لكن نظام مبارك فرض على الإعلام الكثير من القيود القانونية والسلطوية دون الاهتمام بدراسة تأثيرها على الدور الثقافى والحضارى لمصر، ودون الاهتمام بشرعية هذه القيود وحاجة المجتمع لها. هذا يعنى أن السلطة كانت تفرض هذه القيود لتحقيق مصلحتها الخاصة، ولإخفاء ما ترتكبه من جرائم سياسية واقتصادية، وليس لتحقيق المصالح العامة، بل إن هذه القيود تتناقض مع المصلحة العامة للمجتمع المصرى، وتعتبر جريمة فى حق مصر. دراسة الواقع الإعلامى المصرى توضح أيضا أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر عن طريق استخدام وسائل لإعلام لتحقيق مصلحتها فى التحكم فى تدفق المعلومات للجمهور، وتدفق المعلومات من مصر إلى الخارج. وكان من أهم نتائج التحكم السلطوى فى وسائل الإعلام المصرية أن تناقصت مصداقية هذه الوسائل، ولم تعد تشكل مصدرا للأخبار والمعلومات يعتد به، أو تعتمد الجماهير عليه؛ لذلك انصرفت الجماهير فى مصر إلى وسائل إعلامية غير مصرية لمتابعة الأحداث حتى تلك الأحداث التى تحدث فى مصر. وتوضح دراسة تغطية وسائل الإعلام المصرية لثورة 25 يناير مدى ضعف هذه الوسائل، وأن السيطرة السلطوية قد شلت قدراتها المهنية، فهذه الأحداث لا يمكن لأى وسيلة إعلامية تريد أن تنجح فى جذب الجمهور أن تتجاهلها. لكن وسائل الإعلام المصرية تجاهلت أحداث الثورة لفترة طويلة، وركزت قنوات التليفزيون الرسمية على مظاهرات ميدان مصطفى محمود المؤيدة لمبارك، وتجاهلت المظاهرات المليونية فى ميدان التحرير التى تطالب بإسقاط النظام، كما وجهت الكاميرا إلى نهر النيل بهدف إعطاء الانطباع بعدم وجود أى أحداث. وأسلوب تجاهل الحدث يشير إلى تخلف الذين يديرون وسائل الإعلام المصرية، وعدم إدراكهم التطورات الاتصالية العالمية.. فكل ما حدث هو أن الجماهير المصرية قد اعتمدت على قنوات غير مصرية أهمها الجزيرة التى ازداد نجاحها بشكل كبير، وشجعها هذا النجاح على إنشاء قناة الجزيرة مباشر مصر. لذلك فإن مصر تحتاج إلى محاكمة نظامها الإعلامى، وكل من قاموا بإدارته، وإضعاف مصر إعلاميا، وذلك كخطوة مهمة لإقامة نظام إعلامى جديد يحقق القوة الإعلامية لمصر، ويتناسب مع دورها الحضارى والثقافى. لذلك يمكن أن نقول إن الإعلام المصرى لم يتمتع بالحرية إلا بعد ثورة 25 يناير، وكانت النصوص التى يتضمنها دستور 2012 إنجازا حضاريا يفتح المجال أمام تقوية مصر إعلاميا وبناء صناعة إعلامية مصرية تشكل أساسا لمجتمع المعرفة لكن هذه النصوص الدستورية يجب أن يتم فى ضوئها إعادة بناء الأساس التشريعى لحرية الإعلام، وأن يقوم الإعلاميون بإصدار ميثاق أخلاقى جديد يشكل عقدا مع المجتمع؛ بحيث يلتزمون فيه بالعمل على تغطية الأحداث والبحث عن الحقائق والوفاء بحق الجمهور فى المعرفة. إن هذا الميثاق الأخلاقى يمكن أن يفتح المجال لزيادة ثقة المصريين بوسائل إعلامهم والاعتماد عليها فى الحصول على المعلومات والمعرفة، وهذا يشكل أساسا لزيادة قوة مصر الإعلامية.