بقلم أ.د. توفيق الواعى عاشت الأمة الإسلامية حوالى أربعة عشر قرنًا الأمة الأولى فى العالم، لأنها عاشت الإسلام هوية وسلوكًا ومنهجًا وحياة، ثم خلف من بعدهم خلوف بعدوا عن الإسلام الصحيح فهمًا وفكرًا وسلوكا، فتخلفوا فى العلم، وجمدوا فى التفكير، وركدوا فى الفقه والتشريع، وقصروا فى التربية والتوجيه، وفسدوا فى الحكم والإدارة، فزحف عليهم عدوهم الذى ارتشف منهم، فحفظ وضيَّعوا، وعمِلَ وبدَّدُوا، وتفوق عليهم بعد أن كانوا أساتذته، فبهر أبصارهم، وخلب ألبابهم، وبدأ العدو الزاحف يخطط للاستيلاء على تلك الشعوب الهامدة، وهذه العقول المبهورة، فاستعمر أرضها، وملك فكرها، وربى جيلا مشبوها مشوها، حركه بعد رحيله، ووجهه بعد سفره، وكان له العقل المخطط، والفكر المنفذ، فأفسد بهم التعليم، ونسف بهم العقائد، وخرَّب بهم الأُسر، وعلمهم الشرود، ولم يعطهم الحقيقة، وبث فيهم الأقوال ولم يورثهم الأعمال، وقدَّم إليهم القشور، وحجب عنهم اللباب، ووجههم إلى الثرثرة، ومنعهم البحث، ودربهم على السفسطة، وأذْهَلهم عن الاختراع، أوحى إليهم أن الحرية ضياع، ووسوس إليهم أن الفكر إلحاد، وأن البذاءة فلسفة، والتحلل مدنية، والرذيلة فن، والجاهلية فلكلور وتراث وثقافة، فأصبح التعليم أخلاطًا من السموم، وأنواعًا من العلل، وأصبح الترقى فيه أثقالاً على كواهل الأمم، وخلقًا للمشاكل، وحلقة مفرغة، وصرخة فى واد، ولا عجب إذ ترى أن من أممنا اليوم من أخذت بأسباب هذا العلم من أربعين عامًا أو يزيد، وبلغت فيه ما تظنه الغاية، وهى الآن لا تستطيع أن تصنع عربة للخيول، أو مغزلاً تنسج به ما يوارى عورتها، أو رصاصة تدافع بها عن النفس، وأظنها لو لم تتعلم لفعلت ذلك وفاقته. وقد صرحت المبشِّرة (أنا ميلجان) عن الهدف من التعليم فى هذه الأمم ومهمته فى بلاد العرب والمسلمين فقالت: (إن المدارس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم الإلحادى، وهذا التأثير سيستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوما ما قادة أوطانهم). وتقول أيضًا عن كلية البنات الخاصة بالقاهرة : (فى كلية البنات فى القاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات، وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ الاستعمارى، وليس ثمة طريق إلى دحض الإسلام أقصر من هذه المدرسة). ويقول المستر بثروز -رئيس الجامعة الأمريكية فى بيروت-: (لقد أدى البرهان إلى أن التعليم أثمن وسيلة استغلها المبشرون الأمريكيون فى سعيهم لتنصير سوريا ولبنان). ويقول المبشر جون تكلى: (يجب أن نشجع إنشاء المدارس وأن نشجع على هذا الأخص التعليم الموجه، إن كثيرًا من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا، وإن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقى مقدس أمرا صعبا جدا). ويقول القس الشهير (زويمر) فى وصاياه للمبشرين: (ينبغى ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة؛ إذ من المحقق أن المسلمين قد نما فى قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وتحرير النساء). ومن هذه الخطة وهذه الهجمة الحاقدة الساخطة نشأ جيل مهجن ورث الإسلام أسماء وأشكالاً فارغة، ورفضه تربية وقوانين وهدفا ورسالة، فكان الفشل فى كل شىء: فى المجال الاقتصادى.. حيث لا إنتاج، ولا عدالة فى التوزيع، ولا تكافؤ للفرص، ولا استقرار على نظام معين، بل تأرجح بين هذا وذاك. فى الحريات وطمأنينة الشعوب.. وحدّث عن ذلك ولا حرج، فالمعتقلات والسجون والظلم، والطغيان، وتكميم الأفواه، واللعب بالأموال، والعبث بالأعراض... فاقت كل تصور. فى المجال العسكرى.. وما إسرائيل المزعومة (كما سميت) إلا محك هذه الشعوب وتلك الأوطان حتى التى تولى قيادتها عسكريون، فما استطعنا صنع شىء، أو رسم خطة، أو كسب معركة، أو منع توسع، حتى بعد شراء السلاح بمئات الملايين، واستقدام الخبراء، وإطلاق الحناجر، ودبلجة الشعارات.. وأصبح الحلم الذى يرى فى اليقظة إزالة آثار العدوان، وفى الحديث النبوى الشريف: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت». فى المجال الأخلاقى.. فى المجال الإسلامى.. فى المجال العربى.. فى المجال العالمى.. فى المجال الحضارى.. كل هذه المجالات كان الرسوب فيها مهولا أذهل الغيورين على أمة الإسلام وأزعجهم، والسؤال الآن بعد وقفة تفكر وبرهة تعقل (لماذا يكرهون الإسلام؟) هذا المنهج المتكامل الذى برئ من العوج والانحراف، الذى يعطى الجواب الصحيح عن كل مسألة، ويحكم بالحق فى كل مشكلة، المنهج الذى لا منقذ غيره للناس مما هم فيه من شقوة وعذاب وهوان وحيرة واضطراب مفتاح الشخصية الإسلامية والعربية، الذى يفجر طاقاتها المكنونة، وجمع صفوفها المبعثرة، وانطلق بها بقوة الصاروخ نحو أهدافها، فأخرج العالم من الظلمات إلى النور. ولماذا يعادونه ويحاولون القضاء على دعاته والمنتسبين إليه، ألأنهم يجهلون قدره، ولا يعرفون ما فيه من الحق؟ كلا.. فهم يكرهون الإسلام وهم يعلمون ما فيه من الحق والخير، وبأنه هو الذى يقوِّم ما اعوج من شئون الحياة، يكرهونه لأنه نور كاشف، وهم لا يحبون النور، يكرهونه لأنه يكشف عن كل انحراف، وهم يخشون على شهواتهم ومصالحهم ومنافعهم وأهوائهم التى اختلسوها اختلاسًا فى غيبة النور، إن أى طاغية فى داخل العالم الإسلامى، سواء أظهر عداوته للإسلام أو سترها، لا يمكن أن يطبق الإسلام أو يهادن دعاته، لسبب بسيط جدًا؛ لأن الإسلام يجعل ولاء الناس لله، بينما هو يريد أن يكون ولاء الناس له، ولأن الإسلام يُحَرِّم أموال الناس وأعراضهم ودماءهم، وهو يريد أن يأخذ ويهتك ويسفك، ولأن الإسلام ينفى العبودية عن الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وهو يريد أن يُعبِّدهم لهواه، وهؤلاء دائما لا تكون قوتهم من أنفسهم أو إرادتهم الذاتية، إنما هى نابعة من غيرهم يقيمهم تارة الاستعمار الشيوعى أو الصليبى أو الصهيونى، ويحركهم على مسارح الأحداث وفق أهواء مشتركة ومصالح متشابكة، وعجيب أن تعمى الحقائق، وتقلب القيم فى دقائق معينة، دون رفق بالعقول، ورأفة بالأفهام، فيسمى التعصب اليهودى سماحة، والتسامح الإسلامى تعصبا، والإرهاب الصهيونى دفاعًا عن النفس، والدفاع الإسلامى بالكلام فتنة، والإثارة والعنصرية والتآمر والحقد حضارة، والدعوة إلى الأخوَّة والإيمان انحرافًا!!، عجيب أن تكال التهم للبرىء، ويتربص بالآمن، ويسب الكريم، ويُهان المخلص، ويُحتقر العامل، ويُزدَرى الرجال، بينما يصادق العدو، ويُمدَح الضال، ويُحَبُ المتربص، ويُصفقُ للبوم والغربان. وبعد.. نقول لكل متحامل: حنانيك لا تقطع يدك فهى قوتك، ولا تقتل أخاك فهو ردؤك، وأفسح الطريق لرجال الصدق، ومناهج العدل، فهم قادمون. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).