"يترنح" كلمة باتت تحمل من السخرية والمرارة أكبر بكثير من حروفها ال5، تقول الإستراتيجية الاستبدادية أن سخط بعض الشرائح يعوضه سعادة وفرح شرائح أخرى، ولا شك أن "السيسي" هو ومن حوله يدرسون الشعب المصري جيدًا، واستطاع قبل الانقلاب على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، خلق تيار مؤيد له ومعاد لفصائل الثورة، مع شحنه إعلاميًا وخلق رأي عام مواز بل ضاغط في كثير من الأحوال ثم سرعان ما انفض عنه الكثيرون مع تتابع مؤشرات وشواهد الفشل في كل المجالات. وبات السؤال الأكثر إلحاحا ونحن على أعتاب ذكرى 25 يناير، ماذا قدم السخط الشعبي بعد تيار الدماء الجارف لأرواح الأبرياء في رابعة والنهضة والقتل المستمر في أقسام الشرطة والسجون، وموجات الغلاء الرهيبة التي أصابت عناصر حيوية عند المواطن، ورفع الدعم عن ضروريات الحياة كالكهرباء والبنزين والسولار، ولا تنسى ما حدث للمواد التموينية والتي تمس قطاع عريض من الشعب المصري، وهل بالفعل يترنح الانقلاب؟ قتل وسجن واعتقل تخلص السيسي من مبارك ورجالاته وقضى على فكرة التوريث وحلم جمال مبارك في حكم مصر، واستغل الجيش ومخابراته وقادته وضباطه والشرطة والقضاء والإعلام ومؤسسات الدولة لتحقيق أهدافه وأحلامه ومآربه، وتخلص من طنطاوي وعنان وبأيدي غيره وأعاد هيكلة الجيش وقادته وقوانينه بما يحقق له ما يريد. وعرض جماعة الإخوان المسلمين، لأكبر حملة تشويه تتعرض له قوى وأحزاب سياسية في التاريخ، وخلق لها العثرات والنكبات وأهل في وجهها بغض الناس وكره رفقاء الميدان، واختطف الرئيس المنتخب بعد أن انقلب عليه وسجنه وحاكمه، وقتل وسجن واعتقل الآلاف في أكبر حملة إبادة جماعية عرفها التاريخ في ظل صمت العالم، ودعم تاريخي عالمي عربي وغربي وأمريكي، ومن لواء في جيش إلى قصر الاتحادية خلال أقل من ثلاثة أعوام. ونجح في إرباك المشهد الثوري وإشغال الجميع في قضاياهم واعتقالاتهم، وأرهق الشعب ماديًا ومعنوًيا وأمنياً، وما زال السؤال المثير للمرارة والسخرية معاً يتردد مع قدوم رياح 25 يناير، هل كل من فعل هذا - ولازال - جاء ليترنح؟! رغم ازدياد السخط الشعبي لنظام السيسي وأعوانه؟ خسائر الانقلاب ربما أفضل مقاربة للإجابة على هذا السؤال، النظر إلى المكاسب والخسائر التي حققها الانقلاب بعد عامين ونصف العام على الإطاحة بأول رئيس مصري منتخب "محمد مرسي"، في أحداث صنعتها عصابة لا ترى سوى كرسي الحكم، حتى لو كان طريقه مفروشًا بالدماء وآلاف الشهداء والمعتقلين، خسر نظام السيسي الكثير من نقاط قوته خلال الفترة الماضية على عدة مستويات سواء داخليا أو خارجيا، سياسيا وبين مؤيديه، وهي الخسائر التي من الممكن أن تؤثر على نظام حكمه وسياساته بل وفرص بقائه، ومن أبرز هذه الخسائر تأتي الإجابات عن السؤال هل يترنح الانقلاب؟ 1- تفكك تحالف 30 يونيو: خسر السيسي حليفا هاما بممارسات نظامه خلال الفترة الماضية، وهى القوى المحسوبة على ثورة 25 يناير، التي كانت في تحالف 30 يونيو؛ ليبقى تحالف 30 يونيو الآن يضم فقط الفلول ورجال الأعمال والمحسوبين الصريحين على النظام. يقول الباحث السياسي والكاتب الصحفي عامر عبد المنعم:" فشل الانقلاب في الحفاظ على تحالف القوى السياسية التي تلاقت في 30 يونيو، وأكدت أحداث هذا الأسبوع تفكك الغطاء السياسي لقادة الانقلاب، وهروب عدد كبير من القوى الفاعلة التي شاركت في الحلف الانقلابي". مضيفاً:"جاءت الدراسة الميدانية لمركز تكامل مصر ( المشهود له بالدقة والمصداقية) لتؤكد ما يحدث في الشارع، حيث أشارت إلى أن تحالف الأقليات الذي شارك في 30 يونيو كان يمثل 25 % من سكان مصر قد انخفض إلى 18% مقابل 68% يرفضون الانقلاب ويطالبون بالشرعية". وتابع:" هذا التراجع في نسبة مناصري الانقلاب نقلة مهمة قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة وهي الإعلان رسميا عن سقوط الانقلاب". موضحاً:"تبقى هنا نسبة ال 12% التي خرجت من التحالف الانقلابي ولازالت عالقة في الوسط بين الفريقين، لا هي مع الإسلاميين ولا هي مع الانقلابيين، وإذا انضمت هذه النسبة إلى الجمهور الإسلامي سينسحب المزيد من المتبقين من مؤيدي الانقلاب ال 18% وسينكشف الانقلاب". وشدد عبد المنعم:"مطلوب من قادة تحالف دعم الشرعية أن يستوعبوا المزيد من المنقلبين على الانقلاب ويفتحوا لهم الأبواب ولا يضعوا العراقيل والشروط، علينا أن نتخلص من فكرة أننا طرف من أطراف وضد أطراف، فالتيار الإسلامي هو التيار الرئيسي وعليه أن يفكر بما يليق به ويتخلص من الحزبية". وتابع:"علينا أن نصحح أخطاء الماضي ونفكر كوعاء يضم ويحتوي الجميع، قدرتنا على الاستيعاب كإطار جامع للقوى الوطنية المخلصة هي التي ستسرع بالإجهاز على الانقلاب، يومها لن يستطيع قادة الجيش أن يقفوا ضد 90% من الشعب، لو حدثت هذه النقلة سنحتفل باستعادة مصر.. ربما قبل يناير". 2- خسر دعم حكومات الخليج: بعد وفاة الملك عبد الله ملك السعودية وتولي الملك سلمان، ذو التوجهات المختلفة نسبيا عن سابقه، كرسي العرش في المملكة الأكبر في الخليج العربي، فقد السيسي الدعم المطلق من الأنظمة الحاكمة في دول الخليج، وهذه الخسارة ليست هينة على الإطلاق على نظام السيسي الذي كان يولي أهمية كبيرة سياسيا واقتصاديا لدول الخليج الداعمة له لتثبيت دعائم الانقلاب. ومن الممكن أو من المتوقع بمعنى أدق أن تزداد الفجوة بين نظام السيسي ودول الخليج الداعمة له، كشف موقع "ميدل إيست آي البريطاني" عن وجود حالة إحباط من جانب حكام الإمارات من أداء السيسي وطلبه الدائم للأموال من حلفائه الإماراتيين. وتحت عنوان "الخطة الإماراتية لحكم مصر"، قال الكاتب البريطاني ديفيد هيرست: إن وثيقة إستراتيجية كشفت عن أن محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي أصبح يشعر بالإحباط من أداء عبد الفتاح السيسي، وكشفت الوثيقة -التي تم إعدادها لصالح الشيخ محمد بن زايد آل نهيان- عن أن الإمارات تفقد الثقة في قدرة السيسي على خدمة مصالح الدولة الخليجية. الوثيقة المذكورة، التي أعدها أحد عناصر الفريق الخاص بابن زايد، مؤرخة بيوم 12 أكتوبر، وتحتوي على اقتباسين رئيسين يصفان الإحباط الذي يشعر به بن زايد تجاه السيسي، الذي مول ولي عهد أبو ظبي انقلابه العسكري، وضخ، بجانب المملكة السعودية، مليارات الدولارات لشد عوده، وقالت الوثيقة نقلا عن ابن زايد: "يحتاج هذا الرجل إلى معرفة أنني لست ماكينة صراف آلي". وتشير الوثيقة الإستراتيجية المستقبلية إلى أن السياسة المقبلة للإمارات لا ينبغي أن تعتمد فحسب على محاولة التأثير على حكومة مصرية، ولكن السيطرة عليها، قائلة: "سوف أعطي ولكن وفقا لشروطي، إذا أعطيت، فلا بد أن أحكم". وأكدت الوثيقة ضرورة اختيار الإمارات مستقبلا لشركائها في مصر باهتمام متزايد، مطالبة بضرورة العمل على وقف الحرب الكلامية والتحريض ضد السعودية والملك سلمان في الإعلام المصري، لأنها تضر المصالح الإماراتية. وحددت الوثيقة ثلاث مراحل للاستثمار في مِصْر تبدأ العام المقبل، وفي المرحلة الثالثة، سوف يسعى الإماراتيون للتحرك من مرحلة الممول إلى "شريك كامل"، ويقومون بتجنيد وتمويل مراكز أبحاث ومنصات إعلامية. وتأكيدا على خسارة الانقلاب دوليا ما جرى اليوم وله دلالته السياسية، عندما وقف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على رأس المستقبلين لضيوفه من الرؤساء والملوك والأمراء لحضور قمة المناخ التي تستضيفها العاصمة باريس، غير أنه انسحب على نحو مفاجئ قبيل حضور قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ليترك مهمة استقباله لمن خلفه من المسئولين. ورصدت الأذرع الإعلامية لحظة نزول السيسي من سيارته لحضور قمة المناخ، لتروج لمزاعم الحفاوة المبالغ فيها فى استقبال قائد الانقلاب من قبل الرئيس الفرنسي، إلا أن الصدمة جاءت مخيبة للآمال على وقع اختفاء هولاند من المشهد. وعلقت مذيعة التليفزيون على مشهد دخول السيسي إلى قاعة اجتماع رؤساء الدول، بالتأكيد على أن هولاند حرص على استقبال قائد الانقلاب، إلا أن الصمت خيم كثيرا على الشاشة، قبل أن تستطرد أنها لا تري الرئيس الفرنسي على الشاشة رغم استقباله كافة الزعماء ورؤساء الدول. ويعاني قائد الانقلاب من توالي الصفعات في كافة زياراته الخارجية رغم حرصه في كل مرة على تقديم قرابين الولاء وتعمد الانحناء والانبطاح أمام الغرب، إلا أن الإهانات حاصرته في لقاءه مع ديفيد كاميرون الأخير في لندن، وعقوبات بوتين الصارمة تجاه سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، وأخيرا الدخول من الباب الخلفي في قمة المناخ بعد تجاهل هولاند المتعمد استقباله رغم نقل العدسات استقبال الرئيس المضيف للجميع قبيل حضور السيسي. 3- تفكك شبكة المصالح: فصل آخر من فصول الصراع بين المكونات المتحالفة في نظام انقلاب الثالث من يوليو، هذه الطوائف المتعددة المآرب التي اتحدت فيما بينها على خلفية الصراع مع نواتج ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي تخلصت منها واحدة تلو الأخرى، حتى أنهت ذلك الصراع بضربة قاضية للإسلاميين استخدم الجيش المصري فيها للإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي. عقب هذا الانتصار اللحظي في الثالث من يوليو بدأت هذه الشبكات المعقدة من المصالح في جباية ثمن مجهوداتها في الصراع السابق، لكن يبدو أن المؤسسة العسكرية المصرية كان لها رأي آخر، وأعلنت بكل وضوح أنها لا تحب الشركاء، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي. ومنذ ذلك الحين دخل "السيسي" صراعًا مكتومًا مع طائفة رجال الأعمال التي تكونت إبان عهد مبارك، حيث رفض السيسي الاعتماد عليهم اقتصاديًا مفضلًا المؤسسة العسكرية وأذرعها الاقتصادية في كافة المشاريع المطروحة داخل الدولة، كذلك على الجانب السياسي لم يضع ثقته في السياسيين من هؤلاء رجال الأعمال الذي يؤمنون مصالح هذه الطائفة، إلى أن بدأت بوادر وتجليات هذا الصراع تظهر للعلن. يُفسر البعض هذه الخلافات بين النظام ورجال الأعمال، بأنها بسبب تسول النظام دعمهم دون أن يُقدم أي محفزات لهم، بمعنى أن يدفع هؤلاء رجال الأعمال تبرعات للدولة بملايين الجنيهات دون أن تشركهم الدولة في أي مشاريع قادمة، وبهذا يكون الاعتماد الكامل على أذرع المؤسسة العسكرية الاقتصادية، مقابل السكوت عن قضايا الفساد التي راكمت كل هذه الأموال في خزائن رجال الأعمال، ولكن يبدو أن بعضهم رفض هذه المساومة، لتستمر فصول الصراع بين نظام السيسي ورجال الأعمال. 4- على المستوى الشعبي: عاني الشعب المصري كله، وعلى رأسهم مؤيدو قائد الانقلاب العسكري من ويلات القمع والتدهور الاقتصادي والغلاء، فشعب "السيسي" خاب أمله في قائده؛ فبينما اعتبروه المنقذ والفارس الذي سيحقق لهم أحلامهم، إلا أن العكس ظهر لهم، فقد رأوا منه ما لم يروه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. وعلى رغم كل الخسائر السياسية لنظام السيسي يوميا إلا أن غياب البديل الجماهيري هو ما يجعل الصراعات الفوقية السابق ذكرها لا تستطيع الجماهير الاستفادة منها بشكل كبير ومباشر؛ ولكنها على أي حال يمكن الاستفادة منها في تحقيق مكاسب غير مباشرة للجماهير على المدى البعيد من خلال استغلال المساحات المحدودة التي تنشأ عنها لدفع الجماهير للتحرك وتنظيم أنفسهم واكتساب خبرات ثورية جديدة. ولكن ما يجب قوله في هذا الشأن هو أن نظام السيسي يخسر قطاعات واسعة ومختلفة من الجماهير كل يوم، ولم يعد السيسي المخلّص في نظر عدد يزداد يوميا من الجماهير؛ فلا هو قضى على الإرهاب الذي يزعم محاربته، ولا هو جعل حياتهم أفضل، ولا هو حل مشاكلهم اليومية، على العكس تماما فمعاناتهم تزداد يوميا في ظل نظامه مع زيادة الأسعار وانخفاض الدعم، كل شارع أو حي في مصر الآن أصبح فيه معتقل أو شهيد يتعاطف معه أهله الذين يخسرهم النظام يوميا، حتى مصدر قوة السيسي واصطفاف الجماهير وراءه في حربه المزعومة على الإرهاب أصبح مصدر ضعفه سواء من المتشددين في تصديق كذبة الحرب على الإرهاب الذين يرون أنه فاشل حتى في تلك الحرب ويرون الإرهاب يزداد ويتوسع كل يوم في ظل سياساته، أو من هؤلاء الذين يعارضون هذه الكذبة مع تأكد قطاعات أوسع من المصريين يوميا أنه يحارب الثورة وليس الإرهاب. وبعيدا عن الجدال الصاخب بين رفاق ثورة 25 يناير، ودعوات الاصطفاف وحزمة التنازلات التي يرغب البعض في الدفع بها وأولها عدم عودة الرئيس المنتخب إلى قصره، تتغير معطيات السؤال الساخر شديد المرارة من نسخته الساذجة "هل يترنح الانقلاب؟"؛ إلى ذلك التعديل: "مع تغير المعطيات السياسية والشعبية، ومع تغير موازين القوى والضعف؛ هل بدأ الانقلاب على ثورة يناير يترنح بالفعل؟!".