تتعدد وتتنوع فصائل المقاومة للعدو الصهيونيّ في فلسطين، فهناك "كتائب عزّ الدين القسام"، وهناك "سرايا القدس"، وغيرها من الفصائل التي تقاوم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فما حكم ممارستها لهذا العمل من الناحية الشرعية؟ ما هو تكييف هذا الأداء بنظر الشريعة الغراء، هل هو من قبيل جهاد الطلب والغزو؟ أم من قبيل جهاد الدفع؟ أم من قبيل دفع الصائل الباغي؟ أم ماذا؟ المقاومة لغة واصطلاحًا المقاومة (لغة) مفاعلة من القيام، وهي تستعمل معنويًّا في قيام الناس بعضهم على بعض، يقال: قاومه في المصارعة وغيرها، وتقاوموا في الحرب أي قام بعضهم لبعض([1])، وقاومَ يقاوم، مُقاومةً وقِوامًا، فهو مُقاوِم، والمفعول مُقاوَم، وقاومَ العدُوَّ: واجَهَهُ([2])، و(اصطلاحًا) هي: "مواجهة المعتدَى عليهم للمعتدِي بالقوة؛ بغرض رده عن عدوانه"، والمعتدي قد يكون محتلًا غازيًا، وقد يكون حاكمًا مستبدًا غاصبًا للسلطة، وقد يكون صائلا على النفس أو المال أو العرض، وقد شهد التاريخ حركات مقاومة كثيرة، كمقاومة الجزائريين للاحتلال الفرنسي، ومقاومة عمر المختار ومن معه للاحتلال الإيطالي، ومقاومة الفيتناميين للعدوان الأمريكيّ، والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيونيّ بكافّة مراحلها. التكييف الشرعيّ من المعلوم للكافّة أنّ العدو الصهيونيّ قام باحتلال أرض فلسطين، ولم يكن له فيها أدنى حقّ، فهي أرضٌ إسلامية، فتحها المسلمون زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فليس لحاكم – أيًّا كان وضعُهُ – الحقُّ في أن يتصرف فيها بالتمكين لأعداء الأمّة منها؛ ليقيموا على أرض الإسلام دولة للكفر، ولو فعل حاكم ذلك بطل تصرفه ووجب ردُّه؛ لأنّ "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"، ولا مصلحة في ذلك للمسلمين، بل إنّه المفسدة المحضة، وفعلٌ كهذا يَبطُل ولو تم إنفاذه، وينقض ولو بأثر رجعيّ، وقد يسري البطلان على شرعية الحاكم نفسه وولايته؛ لأنّه يكون خيانة وهدمًا لمقتضى عقد الولاية في الإسلام، هذا على فرض أنّ له شرعية من الأساس؛ فكيف وقد علم بالاضطرار من الواقع السياسي المعاصر أنّ هذا النظام العربيّ الذي ولد من سفاح على فراش سايكس بيكو لا يسعد بأدنى درجات الشرعية، وأنّه يحكم الشعوب العربية باستدامة شريعة الغصب بقوة السيف؟ فلا معاهدات السلام التي اعترفت بدولة إسرائيل، ولا التطبيع الذي بنى عليها وانطلق منها إلى تحويل العلاقة مع الكيان المحتل الغاصب إلى علاقة طبيعية تحظى بالاحترام وتسعد بالشرعية، ولا جميع اتفاقيات الإذعان التي أبرمت ابتداء من كامب ديفيد ومرورًا بوادي عربة وأوسلوا وانتهاء بالاتفاق الإبراهيمي الذي يمهد لردة شاملة، لا شيء من ذلك كله يمكن أن يجعل للصهاينة حقٌّ في شبر من أرض فلسطين، وهذا كله على فرض أنّ المشروع الصهيونيّ لا غاية له إلا مجرد احتلال الأرض وغصبها؛ فكيف وقد علم بالاضطرار أنّ غاية المشروع الصهيونيّ – بالتحالف مع الصليبية – إجهاض المشروع الإسلاميّ؟ وعليه فإنّ الكيان الصهيونيّ كيان معادي، أغار على بلاد الإسلام ومقدساته، مدعومًا من النظام الدوليّ الصليبي الأمريكي الكافر؛ يستهدف – إلى جانب الاستيطان والغصب لأرض الإسلام ومقدساته – يستهدف الإسلام والأمة الإسلامية، ويمثل بهذا تهديدًا كبيرًا وخطيرًا ومستمرًا للشعوب المسلمة ولدينها؛ فمقاومة هذا العدوان ودفعه – ليس فقط عمَّا احتله في النكسة 1967م ولا عمّا اغتصبه بعد ذلك بالاستيطان – وإنّما عن جميع أرض فلسطين، هذه المقاومة في حقيقتها من جنس جهاد الدفع الذي تكلم عنه العلماء، وميَّزوه بأحكامه وشروطه عن جهاد الطلب، فهي ليست من جنس جهاد الطلب والغزو الذي هو فرض كفاية، وإنّما من جنس جهاد الدفع الذي هو فرض عين، وليس من قبيل ردّ الباغي ولا دفع الصائل؛ لأنّ البغاة – والخوارج والصائلين والمحاربين – كل هؤلاء مسلمون، وقتالهم له أحكام تختلف عن أحكام قتال الكفار المعاندين المحاربين لدين الإسلام. الحكم الشرعيّ إذا كانت المقاومة من جنس جهاد الدفع؛ فحكمها هو حكم جهاد الدفع، وحكم الجهاد – الذي هو القتال في سبيل الله – هو أنَّه فرض لازم وواجب محتم، هذا هو حكم الجهاد على وجه العموم، سواء كان جهاد دفع أو جهاد طلب، ومن المسلم به شرعًا وعقلا أنّ جهاد الدفع آكد من جهاد الطلب؛ ومن ثمّ فجميع ما يستدل به على وجوب الجهاد عمومًا من قرآن وسنة وإجماع ينصرف إلى جهاد الدفع قبل جهاد الطلب، ودلالته على وجوب جهاد الدفع أولى من دلالته على وجوب جهاد الطلب، وبتعبير أدقّ فإنّ أدلة وجوب الجهاد تدل على وجوب جهاد الطلب، ودلالتها على الدفع من باب أولى. فالجهاد في سبيل الله دفعًا وطلبًا واجب، "ودليله الأوامر القطعية"([3]) الواردة في محكم التنزيل، والقاضية بالوجوب، بدلالات لا تردد في قبولها والعمل بها، كل دليل منها يقترب من القطع في دلالته على الوجوب، لكنها في مجموعها تفيد القطع واليقين وتورث العلم الضروري، وكم من قضية في كتاب الله تعالى حُسِمت وقُطع عنها الشك والارتياب بتعانق الآيات وتضافر دلالاتها، وإن كانت الآية الواحدة منها كافية في الدلالة على المقصود وفي ترتيب العمل والتكليف، وهذه هي سنة الشريعة وطريقتها مع المسائل الكبرى والأمور العظام، التي لها بالغ الأثر في أمَّة الإسلام. ولو أنَّه لم ينزل في كتاب الله تعالى إلا هذه الآية من سورة البقرة لكانت كافية في إلجام المخَذِّلين وإفحام المثَبِّطين، وهي قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ} (البقرة 216)، فبإيجاز شديد: "هذا هو فرض الجهاد"([4])؛ فهذا الخطاب الرباني الواضح الصريح "يدل على فرض القتال؛ لأنَّ قوله: {كُتب عليكم} بمعنى: فُرِضَ عليكم، كقوله: {كُتب عليكم الصيام} [البقرة: 186]"([5]). والإشباع يتجلى في إزجاء الأمر المفيد للوجوب داخل سياق يناقش بموضوعية وواقعية مبررات الوجوب، فالله تعالى في هذه الآية "أَمَرَ بالجهاد وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من أَلَمِهِ، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء"([6])، ومن هنا يُعَدُّ الجهاد – على ما فيه من مشقة – من مظاهر يسر هذه الشريعة؛ لأنّه يدفع مشقةً أكبر وعنتًا أشد وأفدح – لذلك جمع الله تعالى بين الأمر بالجهاد ونفي الحرج عن الشريعة؛ فقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). ولعل متحذلقًا يجد في جوفه بقيّةً من زفير الكلام فيجتهد في نفخه؛ زاعمًا – وكم بالمزاعم من مضحكات – أنّ هذه الآية كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ} [البقرة:180] وإذا كانت الوصية ندبًا وليست بفرض فالجهاد مثلها! فيقال له: "قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية، وذلك قبل فرض الله المواريث، ثم نسخت بعد الميراث، ومع ذلك فإن في حكم اللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب، ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب"([7]). وبرغم قوة الدلالة في الآية السابقة؛ أرى أنَّ الأقوى منها دلالة على الوجوب، والأشد منها دفعًا إلى العمل وسرعة الاستجابة هذه الآية العجيبة: {فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} (النساء 84)، فما أقواها وما أجداها؛ حيث تدل على فرضية الجهاد ووجوبه من وجهين: "أحدهما: بنفسه؛ بمباشرة القتال وحضوره، والآخر: بالتحريض والحث والبيان"([8]). وعظمة القضية تتجلى في أنَّ التكليف بالقتال هنا لا يرتفع وإن انفرد المكلَّف؛ لأن "في الآية إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كُلِّف بقتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإنْ كان وحده"([9])، فكأنَّ الآية تقرر الأصل الذي يجب أن يُستصحب ما لم يأت من الله ما يغيره، وهو أنَّ المسلم مكلف ولو كان وحده بالقتال؛ ليكف الله به بأس الذين كفروا، لكن رحمة الله الواسعة اقتضت إدخال الرخصة على هذا الأصل؛ فيُعَلَّق وجوب الغزو إلى حين الاستطاعة، مع بقاء واجب الإعداد له. ومن تفرس في السياق علم أنَّ الخطاب إنما هو للرسول ولمن وراءه، يقول ابن عطية: "هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، لكن لم نجد قَطُّ في خبرٍ أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدةً ما، والمعنى – والله أعلم – أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ ... أي أنت يا محمد – وكل واحد من أمتك القول له – فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: "ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي"([10]). وهذه آياتٌ ثلاث، جاءت في سورة التوبة التي تأخر نزولها إلى العام التاسع؛ فلم ينسخ منها حكم، ولم يقدم على ما ورد فيها من أوامرٍ أمرٌ، جاءت متوالية لم يفصل بينها إلا آية تعهد فيها الحق تبارك وتعالى بنصرة رسوله ولو تخلى عنه كل الناس، وهي هذه الآيات البينات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُم إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة 38)، {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبكُم عَذَابًا أَلِيمًا وَيَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم وَلَا تَضُرُّوهُ شَيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} (التوبة 39)، {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ} (التوبة 41). ولقد تنوعت دلالات الوجوب في هذه الآيات وتقاربت، وتعانقت وتضافرت؛ لتنتج حزمة من الإلزامات الجازمة الحاسمة، فمن الاستنكار للقعود والتوبيخ عليه، إلى التهديد على ترك النفير والتوعد الشديد عليه، إلى الأمر المتناول لما خفَّ وثقل، باستقصاء لا يكاد يترك فسحة للاستثناء، والسبب في نزول هذه الآيات – وهو لا ريب يسهم في فهم المراد وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – هو ما روي عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من العرب، فتثاقلوا عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية([11])، ولعل هذا كان في تبوك، لذلك قالوا إنَّها نزلت في الحثَّ على غزوة تبوك([12]). وقد "أورد المفسرون عن السلف أقوالًا في تفسير {خفافا وثقالا}؛ فقال بعضهم: كهولًا وشبانًا، وقال بعضهم: أغنياء وفقراء، وقال آخرون: مشاغيل وغير مشاغيل، وقيل: نِشاطًا وغير نِشاط، وقيل: ركبانًا ومشاةً، وقيل: ذا ضَيعَة، وغير ذي ضَيعة"([13]) ، لكنك إن عرفت طريقة السلف في التفسير وجنوحهم إلى ضرب الأمثلة التي يقاس عليها؛ تأكّدَ لك أن جميع هذه الأقوال داخلة في المعنى، واستطعت أن تسحب المعنى ليكون أكثر شمولًا، كما فعل الطبريّ؛ فبعد أن ساق الأقوال قال: "وقد يدخل في [الخفاف] كل من كان سهلًا عليه النَّفر، لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، وقادرًا على الظهر والركاب، ويدخل في [الثقال] كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال"([14]). وكثيرًا ما يتردد أنَّ الآية أو السورة إذا تكرر نزولها – وإن لم يتكرر ذكرها في المصحف- يكون تكرار نزولها هذا دالًّا على جلالة الأمر الذي انطوت عليه، كسورة الفاتحة مثلًا، فكيف إذا كانت الآية قد تكرر نزولها، وتكرر ذكرها بنصها وحروفها في المصحف؟! هذه الآية هي التي أضطَرُّ إلى ذكرها هنا بنصها الواحد في الموضعين: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ} (التوبة 73)، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ} (التحريم 9)، والأصل في الأمر أنَّه للوجوب، مالم ترد قرينة صارفة، والأصل في الخطاب الموجه للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه له ولعموم أمته، ما لم يرد ما يقيده أو يخصصه، ولا قرائن قط من أي نوع في هذا الموضع ولا في غيره؛ فلا مناص من القول بالوجوب بكل ثقة وقوة ويقين. والأمر هنا يتسع؛ ليشمل مع الكفارِ الصرحاء المنافقين الخبثاءَ؛ لكونهم تهديد للإسلام ودعوته أشد من تهديد الكافرين، وإن اختلف العلماء في الوسيلة التي يجاهَدُ بها المنافقون؛ أهي القتال أم الجدال، ولعل الأمر – وليس ههنا موضع البسط – يختلف من حال لآخر، فإن لم تقم بَيِّناتٌ ماديةٌ ينبني عليها قضاء، وكان نفاقهم يُعرف بالمواقف المحتملة، وبفلتات الألسنة والأقلام، وبالتفرس بآلياته المختلفة؛ اكتُفِيَ في جهادهم بالجدال، وإذا قامت بَيِّناتٌ يقوم بها قضاء فالحكم عندئذٍ هو حكم الزنديق الذي يُقتل دون أن يستتاب، وإن كانوا مع كونهم زنادقة متترسين بشوكة ومَنَعَةٍ وجب قتالهم كطائفة ممتنعة، وإن ثبت أنَّهم ليسوا سوى وكلاء لأعداء الأمة محتلين لبلاد المسلمين بالوكالة وجب قتالهم كقتال الكفار؛ ولعل هذا يفيد في توجيه اختلاف العلماء وفي تنزيله على الواقع المختلف زمانًا ومكانًا، وبهذا يمكن التعامل مع اختلاف العلماء في تفسيرهم حيث "قال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادَهم به... وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان... وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم"([15]). وبآية السيف نختم الاستدلال من القرآن – وإن لم تكن آخر الأدلة – ففي صدر سورة براءة التي أرسل بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى أبي بكر ليؤذن بها في الناس وردت هذه الآية المحكمة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدتُمُوهُم وَخُذُوهُم وَاحصُرُوهُم وَاقعُدُوا لَهُم كُلَّ مَرصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة 5)، وبعدها بقليل جاءت هذه الآية متممة ومؤكدة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَومِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُونَ} (التوبة 29)، وهاتان الآيتان وغيرهما – مما ورد في هذه السورة حاملًا الأمر للمؤمنين بقتال المشركين وأصناف الكافرين – لم تُنسخ قطعًا، والخلاف فقط إنَّما هو في مسألة: هل هي ناسخة لما قبلها من المراحل ومقررة للمرحلة الأخيرة فقط، أم إنها ليست ناسخة ولا منسوخة، وأنَّ العمل ماضٍ بكل آية في الواقع المشابه للمرحلة التي نزلت بتشريعها، والراجح – حسب ما عليه المحققون – الثاني دون الأول؛ إذ لا دليل على النسخ، ومجرد الترتيب الزماني واختلاف تواريخ النزول لا يكفي في القول بالنسخ، ولاسيما في جلائل الأمور. ….. (*) د. عطية عدلان، أستاذ الفقه وأصوله، ورئيس مركز محكمات للدراسات والبحوث – اسطنبول.