في لقاء تلفزيوني، اتهم المشر محمد عبدالغني الجمسي الرئيس الأسبق أنور السادات بإفشاء أسرار عسكرية أثنا حرب العاشر من رمضان 1393م، حين أرسل في اليوم الثاني من بدء معارك حرب 1973 برقية إلى وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، أبلغه فيها أن مصر "لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة". ويرى الجمسي أن تلك الرسالة ما كان يجب أن ترسل من رئيس الجمهورية، قائلا إنها "إفشاء لأسرار عسكرية للعدو". فالجمسي كمعظم قيادات المؤسسة العسكرية المصرية حينها كانوا يرون الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل في خندق واحد، وصهيونية كسينجر كانت معروفة للجميع؛ معنى ذلك أن هذه الرسالة وصلت حتما إلى قيادات جيش الاحتلال. وأبدى الجمسي انزعاجه من مراسلات السادات وكيسنجر عبر مستشار السادات للأمن القومي حافظ إسماعيل، مؤكدا أنه لم يطلع على تلك المراسلات ولم يرها إلا بعد انتهاء الحرب. وعزز الجمسي رأيه باتهام السادات بإفشاء أسرار عسكرية بالقول إن معركة الدفرسوار (الثغرة) حدثت لأن كيسنجر أبلغ القادة الإسرائيليين بضرورة فعل شيء على الأرض قبل قرار وقف القتال، ليكون وسيلة ضغط سياسية على مصر. ونقلت تقارير صحفية عن مذكرات كيسنجر "الأزمة.. تشريح لأزمتين كبيرتين في السياسة الخارجية"، قول الوزير الأميركي إنه "نقل لسفير إسرائيل لدى واشنطن نص برقية السادات بعدم توسيع مدى المواجهة، وكانت تلك خدمة جليلة لإسرائيل أوقات حرب عصيبة". لكن في المقابل، قال حافظ إسماعيل (مستشار السادات) إن "مضمون البرقية كان يمثل نقطة انطلاق لوقف إطلاق النار، فقد كنا نأمل من خلال المعركة التوصل إلى صياغة سياسية مرضية، عجزنا طيلة 6 أعوام عن تحقيقها". وفي كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات"، أضاف إسماعيل "ومع ذلك فقد التزمنا بإدارة عملياتنا العسكرية"، مشيرا إلى أن بلاده كانت قادرة على التدخل ضد المصالح الغربية في المنطقة سواء بمعاونة الحكومات العربية أو شعوبها. وحتى ندرك أهمية هذا الاتهام فإن المشير محمد عبدالغني الجمسي يعد واحدا من أبرز قادة الحروب العربية الإسرائيلية (1948 1973)، فهو «الصامت النحيف» وأول من قاد مفاوضات مباشرة مع العدو الصهيوني سنة 1974م. وأهم ما يميز الجمسي أنه على عكس معظم قادة المؤسسة العسكرية وجنرالاتها الذين يلهثون وراء المناصب السياسية والبيزنس فإنه رفض رفضا قاطعا أن يتولى أي منصب سياسي، بل أنه عارض بشدة انشغال رجال الجيش بالسياسة ورأى في ذلك خطرا على المؤسسة العسكرية وخطرا على الدولة. لذلك لم يكن الجمسي من المعجبين بالرئيس الأسبق الدكتاتور جمال عبد الناصر (1954-1970)، كما اختلف الجمسي مرّات مع الرئيس الأسبق أنور السادات (1970-1981)، واتهمه بإفشاء أسرار عسكرية إبان حرب 1973، وعارضه في قرار تخفيض القوات المصرية بسيناء خلال المفاوضات. المشير الجمسي (مواليد المنوفية 1921 وتوفي في يونيو 2003م عن عمر يناهز 82 سنة)، ترقى في المناصب العسكرية حتى عُيّن وزيرا للحربية كآخر من تولى حقيبتها في مسماها القديم قبل أن تتحوّل إلى وزارة الدفاع. وشغل منصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة خلال فترة الإعداد لحرب السادس من أكتوبر 1973، ورئيسا للأركان خلال الحرب التي مهدت إلى مفاوضات فك الاشتباك.
هزيمة 5 يونيو كانت هزيمة 05 يونيو/حزيران 1967 كارثية على العرب، فقدت مصر سيناء وقطاع غزة، وفقد الأردن الضفة الغربية، وفقدت سوريا الجولان. وفي مذكراته، يؤكد الجمسي أن مصر لم تكن مستعدة للحرب في ذلك العام، فقد كانت حالة الجيش سيئة لأسباب أبرزها: * التورط في حرب اليمن، حتى أصبح ثلث الجيش يقاتل هناك. * الهزيمة محصلة طبيعية لأخطاء سياسية وأخرى عسكرية متراكمة. * الحالة الداخلية كان يرثى لها، إذ أصبح كل شيء يُعهد به إلى القوات المسلحة. ومع بداية عام 1972، صدر قرار بتعيين الجمسي بمنصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، فكان موكلا بإعداد خطة استرداد سيناء، فبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الإسرائيلي، وأوقات الحرب المقترحة، وكيفية تحقيق عنصر المفاجأة والحفاظ على السرية التامة. وضع الجمسي كل ذلك في كشكول (دفتر) دراسي يخص ابنته، لم يطلع عليه سوى الرئيسين المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد، خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب، فعرفت الخطة ب"كشكول الجمسي". شمل "الكشكول" محاور رئيسية حول المواصفات الفنية لقناة السويس من أجل تيسير العبور العسكري إلى سيناء، والأعياد والعطلات الإسرائيلية وتأثيرها على إجراءات التعبئة العسكرية، والموقف الداخلي الإسرائيلي.
ثغرة الدفر سوار في السادس من أكتوبر1973، بدأت مصر وسوريا هجوما مفاجئا وجريئا على إسرائيل لاسترداد الأراضي المحتلة في حرب ضارية استمرت نحو 3 أسابيع. وفي ليل 16 أكتوبر/تشرين الأول 1973، قام الجيش الإسرائيلي بهجوم مضاد، وحاصر الجيش المصري الثالث غرب قناة السويس، في معركة "الثغرة" الشهيرة الواقعة بمنطقة الدفرسوار غرب قناة السويس. كانت "الثغرة" سببا في خلاف شهير بين السادات ورئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، وهو الخلاف الذي انتهى بإقالة الشاذلي قبل نهاية الحرب، وتعيين الجمسي بدلا منه. وفي مذكراته، نفى الجمسي رواية ذكرها السادات في كتابه "البحث عن الذات" بأن الشاذلي عاد منهارا من الجبهة يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1973. وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول من عام الحرب، فُرض وقف إطلاق النار بين الجانبين، وبدأت المحادثات تحت رعاية الأممالمتحدة بعدها بأيام.
مباحثات الكيلو 101 في أعقاب حرب 1973، قاد الجمسي مباحثات الكيلو 101 (على طريق السويسالقاهرة) مع الجانب الإسرائيلي، التي أسفرت عن توقيع اتفاقيتي فك الاشتباك الأولى والثانية، اللتين استردت مصر بموجبها حقول بترول في شبه جزيرة سيناء. وفي خيمة عسكرية، اتفق الجانبان على قبول منطقة عازلة تابعة للأمم المتحدة، وتبادل الأسرى، ورفع الحصار المفروض على الشحن الإسرائيلي. كانت المفاوضات تتطلب تنازلات مؤلمة، فحين طلب السادات من الجمسي قبول تخفيض القوات المصرية في سيناء إلى 30 دبابة فقط، رد الجنرال "مستحيل.. ذلك يضر بالأمن القومي المصري"، لكنه في النهاية رضخ لأمر السادات. مطلع 1974، قام وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر برحلات مكوكية بين مصر وإسرائيل، مهدت إلى توقيع الجمسي ونظيره الإسرائيلي ديفيد إليعازر اتفاقية كانت الأولى من نوعها بشأن سيناء. ويضيف الجمسي أنه "كانت هناك الكثير من الاختلافات في الرأي بيني وبين الرئيس السادات في مرحلة السلام مع العدو الإسرائيلي، ولكن في النهاية كان له الأمر في النواحي السياسية والعسكرية". وفي 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، وقعت بمصر احتجاجات شعبية حاشدة بعد إعلان إلغاء الدعم عن بعض السلع الأساسية، لم تقدر وزارة الداخلية على السيطرة عليها. آنذاك، طلب رئيس الحكومة ممدوح سالم من المشير الجمسي نزول الجيش للشارع والسيطرة على المظاهرات، لكن الأخير رفض وقال إنه "لا يستطيع لأن الأمر يصدر من الرئيس". في تصريح تلفزيوني، نفى الجمسي أن تكون المظاهرات التي عرفت ب"انتفاضة الخبز" مؤامرة خارجية ضد نظام السادات، مؤكدًا أنها "انتفاضة شعبية" وليست "ثورة حرامية" كما قال عنها السادات. وعندما تلقى الجمسي أمر الرئيس نزلت القوات إلى الشارع، مؤكدا أنه أصدر تعليمات بعدم استخدام القوة أو الاحتكاك مع الشعب.
الفراغ القاتل قبل يوم واحد من الذكرى الخامسة لحرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1978، أقال السادات الجنرال الجمسي من وزارة الحربية، وهو قرار اعتبره الأخير لم يراع الجانب النفسي باعتباره مهندسا لعمليات الحرب. وقال في لقاء تلفزيوني إنه بعد الإقالة أصيب بأزمة قلبية بسبب "الفراغ القاتل"، إذ كان يمنّي النفس بأن تتم الاستفادة من تاريخه كما تفعل بعض الدول. وفي السابع من يونيو/حزيران 2003، رحل المشير الجمسي في صمت بعد معاناة طويلة مع المرض، ليتم تشييع جثمانه في اليوم التالي بجنازة عسكرية مهيبة شارك فيها القيادات السياسية والعسكرية والآلاف من محبي هذا القائد العظيم. فرحمة الله على الجمسي وجعل مثواه الجنة.