الجمسى ىتفقد قواته على الجبهة بسىناء من رحم الشدائد والمصاعب تولد الرجال، وليس أي رجال بل رجال يتصفون بالصلابة والقوة والعزيمة والإصرار علي تخطي الصعاب ومحو آثار ما تجرعوه من معاناة وشدة مؤمنين بالله وعازمين علي الكفاح والنضال علي أن يتركوا بصماتهم من خلفهم ويسطروا تاريخهم بحروف من نور صفحات مشرفة وقصص كفاح يتوارثها الأجيال. إن العسكرية المصرية علي مر الزمان مليئة بنماذج مشرفة وأبطال عظام تربوا وترعرعوا علي حب الوطن تربوا علي التضحية والفداء وعلي ألا يترددوا لحظة في خوض غمار المعارك والاستشهاد في سبيل الله وحماية تراب الوطن، حملوا اكفانهم مع عتادهم، افنوا حياتهم مخلفين وراءهم ما يعتزون به ويفخرون، ليكون حافزاً وقدوة تقتدي للأجيال القادمة من بعدهم، ومن هؤلاء المشير محمد عبد الغني الجمسي. وهو أحد القادة العظام الذين صنعوا نصر أكتوبر، وهو أحد القيادات التي يعترف بقدراتها الخارقة الأعداء قبل الأصدقاء. مولده ونشأته: في قرية من قري محافظة المنوفية هي قرية البتانون ولد محمد عبدالغني الجمسي في أسرة ريفية تعيش علي الزراعة وتربي علي المثابرة والكفاح والاجتهاد إلي ان وصل إلي عامه السابع عشر، وحصل علي الشهادة الثانوية، ومن حسن حظه ولأن الله أراد أن يرزق مصر وجيشها بقائد بارع، استفاد الجمسي من قرار النحاس باشا بفتح أبواب الكليات العسكرية في وجه أبناء الشعب المصري من الطبقات الفقيرة والمتوسطة بعدها كانت مقصورة علي فئة معينة من الميسورين والمقربين فالتحق الجمسي في سن السابعة عشرة بالكلية الحربية مع عدد من أبناء جيله وطبقاته الاجتماعية الذين اختارهم القدر لتغيير تاريخ مصر، حيث كان من جيله جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيي الدين... وغيرهم من الضباط الأحرار، وتخرج فيها عام 1939 في سلاح المدرعات، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية ألقت به الأقدار في صحراء مصر الغربية، حيث معركة العلمين أقوي معارك المدرعات بين قوات الحلفاء بقيادة مونتجمري والمحور بقيادة روميل، وكانت تجربة مهمة ودرسا مفيدا استوعبه الجمسي واختزنه لأكثر من ثلاثين عاما حين أتيح له الاستفادة منه في حرب أكتوبر. واستكمالا للمسيرة الناجحة تلقي الجمسي عددا من الدورات التدريبية العسكرية في كثير من دول العالم المتقدمة عسكريا، ثم عمل ضابطا بالمخابرات الحربية. فمدرسا بمدرسة المخابرات، حيث تخصص في تدريس التاريخ العسكري لإسرائيل الذي كان يضم كل ما يتعلق بها عسكريا من التسليح إلي الاستراتيجية إلي المواجهة. فكان الصراع العربي الإسرائيلي هو المجال الذي برع فيه الجمسي، وقضي فيه عمره كله الذي ارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 8491 وحتي انتصار 1973، وكان يؤمن بأن حرب أكتوبر ليست نهاية الحروب، وان حربا أخري قادمة لا محالة، لأن مواجهة مصيرية لابد أن تقع. وبعد هزيمة يونيو 1967 أسندت القيادة المصرية للجمسي مهام الاشراف علي تدريب الجيش المصري مع عدد من القيادات المشهود لها بالكفاءة والخبرة العسكرية استعدادا لرد الاعتبار وإزالة آثار الهزيمة وتهيئة الجيش معنويا ونفسيا وتدريبيا، وكان الجمسي من أكثر قيادات الجيش دراية بالعدو، فساعده ذلك علي الصعود بقوة، فتولي هيئة التدريب بالجيش، ثم رئاسة هيئة العمليات، وهو الموقع الذي شغله عام 1972، ولم يتركه إلا أثناء الحرب لشغل منصب رئيس الأركان. الاستعداد للمعركة بدأ الجمسي الاستعداد لساعة الحسم مع العدو الصهيوني، فكان لا يتوقف عن رصد وتحليل وجمع كل المعلومات عنه، وعندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ يستعين بكل مخزون معرفته، وبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الصهيوني، وتوقيتات الحرب المقترحة. وكيفية تحقيق المفاجأة.. وللحفاظ علي السرية التام دون كل هذه المعلومات السرية في الشيء الذي لا يمكن لأحد أن يتصوره! فقد كتب الجمسي كل هذه المعلومات في كشكول دراسي خاص بابنته الصغري، فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا الرئيس المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب! توقيت الحرب واختار القائد المصري المحنك توقيت الحرب بعناية بالغة: الساعة الثانية ظهرا من يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان 1393، وهو أنسب توقيت ممكن للحرب، نظرا لوجود 3 أعياد يهودية وموافقته لشهر رمضان حيث ان جنودنا صائمون والعدو يستبعد تماما ان المصريين ممكن ان يحاربوا في رمضان، وهو يوم يكون فيه سرعة تيار المياه في القناة بطيئة وليلة مقمر تحسبا لامتداد وقت الحرب ليلا، وأيضا هذا اليوم يوم استرخاء في صفوف الجيش الإسرائيلي والإذاعة لا تعمل. أصعب اللحظات عاش الجمسي ساعات عصيبة حتي تحقق الانتصار، لكن أصعبها تلك التي تلت ما عرفه بثغرة الدفرسوار التي نجحت القوات الصهيونية في اقتحامها، وأدت إلي خلاف بين الرئيس السادات ورئيس أركانه وقتها الفريق سعد الدين الشاذلي الذي تمت اقالته علي اثرها ليتولي الجمسي رئاسة الأركان، فأعد علي الفور خطة لتصفية الثغرة وأسماها »شامل«، إلا أن السادات أجهضها بموافقته علي فض الاشتباك الأول عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر للقاهرة! وبعد انتهاء المعركة تم تكريم اللواء الجمسي، وترقيته إلي رتبة فريق، ومنح نجمة الشرف العسكرية.. ثم تنته الساعات العصيبة في حياة الجمسي، فقد عاش ساعات أقسي وأصعب! وهي ساعات المفاوضات مع عدو ظل يقاتله أكثر من ربع قرن..اختار السادات الفريق الجمسي ليتولي مسئولية التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات الكيلو 101، وكقائد تجري دماء العسكرية في دمه نفذ الجمسي أوامر القيادة التي يختلف معها، وان كان قد قرر ألا يبدأ بالتحية العسكرية للجنرال »ياريف« رئيس الوفد الإسرائيلي، وألا يصافحه، وهذا ما حدث فعلا، وبدأ الرجل مفاوضا صلبا مثلما كان عسكريا صلبا، حتي جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته لأول مرة في حياته العسكرية لأن يبكي كان ذلك في يناير 1974 عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليخبره بموافقة الرئيس السادات علي انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس فرفض الجمسي ذلك بشدة وبادر بالاتصال بالسادات الذي أكد موافقته، ليعود الرجل إلي طاولة المفاوضات يقاوم دموعه، ثم لم يتمالك نفسه فأدار وجهه ليداري دمعة انطلقت منه حارقة. آخر وزير حربية بعد الحرب مباشرة رقي الفريق الجمسي إلي رتبة الفريق أول ومع توليه منصب وزير الحربية عام 1974 وقائد عام للجهات العربية الثلاث عام 1975، وخرج الجمسي من وزارة الحربية عام 1978، ولعل السبب الأرجح لهذا الخروج أو الإبعاد هو رفض الجمسي نزول الجيش إلي شوارع مصر لقمع مظاهرات 18 و19 يناير 1977 الشهيرة، فأسرها السادات له، وكان قرار قبوله التقاعد بناء علي طلب الجمسي، وتغير اسم وزارة الحربية إلي وزارة الدفاع. إلا أنه رقي عام 1979 إلي رتبة المشير، ويعد الجمسي آخر وزير حربية بعدما تغير مسماها إلي وزارة الدفاع، وحين خرج للحياة المدنية كان أول قرار له هو رفض العمل بالسياسة، وظل محافظا علي ذلك. الرحيل الصامت وفي صمت رحل المشير الجمسي عن عالمنا بعد معاناة طويلة مع المرض، وصعدت روحه إلي ربه في 2003/6/7 عن عمر يناهز 82 عاما، عاش خلالها حياة حافلة بالإنكسارات والانتصارات والإنجازات، وحصل الجمسي خلال حياته العسكرية علي العديد من النياشين والأوسمة التي تجاوز عددها 24 وساما من مختلف أنحاء العالم، ولكنه كان يردد دائما ان حرب أكتوبر هي أعلي وأرفع الأوسمة.