كان يا مكان. بنت جميلة. إذا ابتسمت ضحكت الدنيا، وإذا حزنت أمطرت السماء. تصحو على ابتسامتها وتحتضن فيها الدنيا بما رحبت، وتشترى لها التوكة الجميلة، وتضع لها الشيكولاتة على وسادتها حتى إذا استيقظت أخذتها فرحة، وجرت لتطبع قبلتها على جبينك وتوقظك على سعادة ليس لها مثيل. كان يا مكان. بنت جميلة. تمشط أمها شعرها الطويل أمامك حتى تحايلها، فلا تبكى أو تتعبها حتى تنتهى من (ديل الحصان) أو (الكحكة) أو (القطة ام ودنين) أو (القُصة) أياً كانت، فتجرى إليك لأنها تهتم بأن تراها، وتحب أن تسمع منك: «الله.. إيه الجمال ده!». كان يا مكان. بنت جميلة. تبدأ فى القلق عليها وأنت تسمع عن حوادث الاختطاف، واغتصاب الفتيات الصغيرات، وانحراف بعضهن حين يكبرن، وضحك (العيال البايظة) عليهن، ف(تقفل) عليها، وتبدأ فى إقناعها بالحجاب الذى ترتديه حباً فى (ربنا) الذى أمرها به، و(بابا) الذى يريدها أن ترتديه لكى تكون (زى القمر). كان يا مكان. بنت جميلة تظل تراقبها دوماً خوفاً عليها، لكنك لا تدرك أنك مع مرور الوقت تضعها دائماً فى موضع الاتهام، و(تخنقها) بتعليماتك، و(تؤلمها) بملاحظاتك عن (لبسها)، وفى كل يوم تضطر البنت لأن تحتشم أكثر وأكثر رغم أنها محجبة فى الأساس، ورغم أنها ليست من (الكاسيات العاريات) التى سمعت أنت عنهن من شيخ الجامع يوم الجمعة، ورغم أنك (مربيها أحسن تربية)، لكنها الدنيا، والعالم الغريب الذى نعيش فيه، وخوفك عليها الذى لا ينتهى، بل يتكاثر بمرور الوقت، ويتعاظم حتى تراها عرضة لأى مصيبة، وتجد نفسك شيئاً فشيئاً تشك فى كل من حولها، قبل أن تبدأ فى الشك فيها شخصياً، مع أنك تراها تصلى الفرض بفرضه، وتصوم رمضان، وتطيع ربها، ووالديها. كان يا مكان. بنت جميلة. قررت وحدها، وعن اقتناع كامل، وبعد مشاهدة القنوات الدينية التى أصبحت نزيلاً دائماً فى بيتكم أن ترتدى النقاب. تحملته طمعاً فى إرضاء ربها، وكانت من الصابرات عليه فى عز الصيف، ومن السيدات اللواتى يحتسبن حين يسمعن الجميع يهاجم النقاب، الذى تعتبره هى -إلى جانب كونه فضيلة ومكرمة- حرية شخصية لا تسلم به من ألسنة كثيرين يتهمونها بالتطرف أو كونها جزءاً من مؤامرة وهابية سلفية لتدمير الهوية المصرية الوسطية، أو أنها (خطرة) على الأمن، أو أن كثيراً من الرجال يمكن أن يتنكرن فى نقابها ويرتكبوا جرائم، أو أن كثيراً من الساقطات يرتدينه لكى يخفين أوجههن وهن ذاهبات للقاء عشاقهن. كانت تتحمل كل هذه السخافات التى تصل لدرجة السفالات أحياناً، فتُحرم من المدينة الجامعية مرة، ويتم توقيفها على باب الجامعة لحين الإتيان بامرأة ترى وجهها وتفتشها، وكانت تصبر وتصبر وتصبر، لكنها لم تصبر أبداً عن مناصرة الحق، والنزول للتحرير، والهتاف بأعلى صوت لأنها تدرك أن صوت المرأة (ثورة) وليس (عورة). كان يا مكان. بنت جميلة. منتقبة. كانت موجودة فى التحرير منذ عام، فنزل جنود الجيش المصرى، وقام أحدهم بسحلها، وعراها آخر، وضربها بباطن بيادته الثقيلة فى صدرها بمنتهى العنف وهو يجرها على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ثم يخرج لواء جيش لينفى ما شاهده الجميع، ويؤكد أن الواقعة قيد التحقيق الذى لم نعرف نتائجه بعد عام كامل رغم أن معرفة الجندى والضابط وقائدهما الذى أمرهما بذلك فى منتهى السهولة، ويخرج شيخ ليقول: واحنا نعرف مين دى.. يا نصابين. ويخرج مريض نفسياً على إحدى القنوات ليقول: إن الملابس الداخلية التى كانت ترتديها البنت تدل على مؤامرة لأنها من أفخم الأنواع، والزاوية التى صُورت منها تدل أن كل شىء كان معداً لفضح مصر، ثم يخرج تفهاء يقولون: وإيه اللى وداها هناك؟؟، ويخرج حقير آخر فيقول: وهىّ ليه تلبس عباية بكباسين، وليه تلبسها ع اللحم؟ ثم يمارس جهاز أمنى كلنا يعرف هوايته، فيلفق لها فيديو ويقول إنها كانت تزيح ملابسها -وهى المسحولة- كلما حاول الجنود تغطيتها. كان يا مكان. بنت جميلة.. تعرت، فأظهرت عوراتنا جميعاً، ولم يأتِ بحقها لا ثورة، ولا قوى سياسية، ولا مجلس عسكرى، ولا برلمان شرعى، ولا مرشحو رئاسة، ولا رئيس جمهورية منتخب. كان يا مكان. بنت جميلة. اسمها مصر.