منذ أن تسلم الرئيس مرسى مهام منصبه فى يوليو 2012 وحديث الساعة فى مصر هو تقييم أدائه. وهو أمر معقد، فالمواطن العادى الذى لا ينتمى لحزب ولا يعتبر نفسه طرفاً فى الحرب الفكرية الدائرة بين ما يطلق عليه القوى الإسلامية ومن يسمون أنفسهم بالليبراليين، قد يجد نفسه محاطاً بالدعاوى الآتية من قبل أنصار الرئيس، خاصة أعضاء جماعة الإخوان التى ينتمى لها، يدعوننا لأن «نمهله فرصة كافيه قبل الحكم عليه» بدون أن يحددوا طول تلك الفرصة، ويذكروننا بأنه «استلم تركة ثقيلة وتحديات هائلة»، كما أنهم يغضون الطرف عن النقد الموجه للرئيس لأنهم يعتبرون أى نقد جزءاً من حملة متحيزة ضده وضد الإخوان. من الواضح أنه بالفعل توجد حملة سيئة النية لتشويه مرسى والجماعة، ليس بناء على عيوب وأخطاء حقيقية بل لتحيزات دائمة أيديولوجية أو سياسية فى إطار الصراع على السلطة. تتمثل تلك الحملة فى اتهامات فضفاضة تفتقد لأدلة فتشوش على النقد الجاد. وبين المتعصبين للرئيس والمتعصبين ضده تتعقد مسألة تقييمه - فإما أن يكون إرهاباً فكرياً من قبل من يتهمون كل ناقد لمرسى بمحاولة إفشاله وبالتحيز، وإما تضليلاً ممن لا يتورعون عن تلفيق ادعاءات كاذبة ضد الإخوان أو غيرهم. لكن ما يزيد الأمر تعقيداً هو عدم وجود قواعد ومعايير واضحة لتمكين المواطن من تقييم الرئيس على أساسها، فمن البداية قدم مرسى وباقى المرشحين وعوداً حول ما سينجزونه حال فوزهم رغم أن صلاحياتهم المرتبطة بإمكانية تنفيذ تلك الوعود من عدمها لم تكن معروفة فى غياب دستور يحدد طبيعة منصب الرئيس والعلاقة بين السلطات، فالإعلان الدستورى الذى كان المجلس العسكرى قد وضعه فى مارس 2011 ضعيف المصداقية، لم تحترمه الكيانات السياسية أو المجتمعية (بما فيها العسكرى الذى وضعه)، التزموا به عندما خدم أهدافاً معينة وتغاضوا عنه حسب المصلحة، مما شكك فى صفته الدستورية. وازداد الخلط فيما يخص صلاحيات الرئيس بسبب الإعلانات الدستورية التى أصدرها العسكرى، ثم الرئيس حيث أصدر إعلاناً ليعطى نفسه بنفسه سلطة التشريع واعتماد الميزانية وحق تشكيل جمعية تأسيسية لصياغة الدستور. ومع ذلك كله، ما زلنا لا نعرف على وجه التحديد ما سلطات الرئيس التى انتخبه من انتخبه ليمارسها، فمثلما أصدر إعلاناً دستورياً حدد فيه سلطاته، من الممكن أن يصدر إعلاناً آخر يغير به تلك السلطات، أما نحن المواطنين، فآخر من يعلم. نحن فى حيرة أيضاً فيما يتعلق بسلطات مرسى إزاء الكيانات السيادية كالجيش والمخابرات واتخاذ القرارات والتصرف فى أمور الدولة الداخلية والخارجية، يتباهى أنصاره بأنه انتزع سلطاته وأسقط حكم العسكر عندما أقال قاداتهم وأسقط إعلانهم المكمل، لكن الغريب أنه عندما يتم انتقاد أى من سياساته أو السلبيات المستمرة بعد توليه الرئاسة (مثل انتهاكات الداخلية ضد المواطنين -كواقعة تقادم الخطيب- أو علاقات الجيش المصرى بنظيره الأمريكى، أو خطاب بيريز) يرد أنصار مرسى بأنه لم يتمكن من زمام الأمور بعد. وكأن مرسى قديس، الخير كله منه والشر دائماً من دونه، ينسب له أى تطور إيجابى فى أحوال البلاد (إن وجد) ويتبرأ من جميع المساوئ التى نغرق فيها، وكأنه ساحر انتزع سلطاته من العسكر رغم أنه أيضاً لم ينتزعها بعد. بالنسبة لأنصار مرسى، تعد كل مشاكل البلد من إرث مبارك وهى ليست مسئولية الرئيس الحالى، يبدو ذلك كالحجة الجاهزة للرد على كل ناقدى الرئيس. صحيح أن مبارك خلف فساد وخلل متوغلين فى كل شىء، يصعب تطهيرهما بين عشية وضحاها، لكن لو سلمنا بذلك وعزفنا عن تقييم مرسى فسنلغى مبدأ محاسبة المسئولين الذى هو ركن أساسى للديمقراطية، والتى لا تعنى أن ينتخب أغلبية الناخبين رئيساً ثم يتحولوا لمتفرجين فقط حتى يحين موعد الانتخابات التالية. ليس المطلوب من مرسى أن يصلح فى أشهر ما أفسده مبارك فى عقود؛ لكننا لا نرى بوادر على أنه بدأ العمل وفق خطة باتجاه التطهير والإصلاح، ولا نعلم أى جدول زمنى يسير عليه. وعدنا وعوداً فضفاضة غير قابلة للتحقيق، وكأنه استخف بنا، ثم لم ينجح فى تحقيقها، كما كان متوقعاً، ثم يطالبنا أنصاره بالاكتفاء بالقليل. كان يجب من الأساس أن تكون هناك معايير محددة لتقييم الرئيس، لكن الأمر الواقع أنه لا يوجد دستور يحدد الصلاحيات. إن كان هذا هو الوضع القائم، بعوجه ولا منطقيته، فعلى الأقل يتحتم على الرئيس أن يلتزم بالشفافية. يتحدث معارضو الشفافية عن خطورة معرفة العوام بالأمور الحساسة، وكأن الشعب قصر والرئيس وحكومته هم فقط الناضجون. الحقيقة التى لا يذكرونها هى أن الشفافية ركن أصيل للديمقراطية، فبموجب قوانين حرية تداول المعلومات نستطيع أن نعرف بدقة راتب الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء البريطانى ووزراء الدفاع وموظفى الوزارة وأعضاء البرلمان بالدولتين، إضافة للضرائب التى يدفعونها، كل ذلك من خلال المواقع الحكومية الملتزمة قانونياً بإتاحة هذه المعلومات للجميع. حتى المعلومات المتعلقة بالأمن القومى والمخابرات، ما يتم إخفاؤه منها هى أجزاء معينة يحددها القانون، فالأصل هو الإتاحة والاستثناء هو الإخفاء، والإخفاء يكون لفترة محددة ثم يتم الكشف عما كان محظورا. أما فى مصر الثورة، فنحن نجد المعلومات عن الرئيس وحكومته من خلال تخمينات الإعلام غير الموثوق فيه، وأحيانا نسمع بعض التصريحات من المسئولين، يلقونها بشكل غير منظم فى مناسبات متفرقة، معلومة من هنا وأخرى من هناك، ونحاول ربط الخيوط ببعضها لتكوين فكرة ما عن الحكومة التى ندفع لها ضرائبنا. لا يعاملنا الرئيس وحكومته بشفافية، فالشفافية ليست أكليشيهات يرددها المسئولون، بل هى التزام بإتاحة المعلومات بشكل ممنهج خلال فترات زمنية محددة، وهى ليست منحة من المسئولين بل واجب عليهم. يبرر أنصار مرسى غياب الشفافية بأن هناك أموراً خطيرة وصراعات بينه وبين قوى خفية لا يصح أن يعرفها المواطنون البسطاء؛ لكن تلك الأعذار التى تغلق باب المساءلة تندرج تحت ثقافة كون البعض قادرين على تحمل علم لا يتحمله العاديون: ثقافة عشناها فى عصر مبارك ويوحى خطاب الإخوان بأنهم يعيشونها داخلياً - القادة هم أكثر علماً وخبرة وهم أهل للعلم كله والعوام ليسوا أهلاً لأن يعرفوا إلا جزءا مما يعلمه القادة، وهى ثقافة مرفوضة. وما أدرى المواطن إن كان الرئيس يعمل فى الخفاء لصالح الشعب حقا. إن كان أنصاره من الإخوان يثقون فى ذلك، فالمواطنون العاديون ليسوا مضطرين لأن يحملوا نفس هذه الثقة تجاه مرسى. الرئيس غير مطالب بأن يكون رجلاً خارقاً؛ لكنه مطالب بتطبيق بمبادئ الديمقراطية خاصة أن أنصاره يتباهون بأنه الرئيس «المنتخب ديمقراطياً»، فالديمقراطية ليست منحصرة فى إجراء انتخابات بل تلك هى إحدى آلياتها الهامة، والأمر أكبر من ذلك، الغاية هى أن تكون السيادة للشعب الذى يعمل الحكام من أجله، لا أن يعمل الشعب من أجل الحكام ويقبل بمرتبة الضعفاء غير المؤهلين لمحاسبة أكبر القادة السياسيين. المحاسبة والشفافية مبدآن لا تستقيم الديمقراطية بدونهما.