ربما يكون رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو هو أكبر الخاسرين من اتفاق التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى الذى وصفه بأنه خطأ استراتيجى لا يغتفر، لأن أمريكا والعالم الحر استسلموا لضغوط إيران، كما استسلم رئيس الوزراء البريطانى تشمبرلن للنازى الألمانى وشجع هتلر على أن يشن حربه على العالم، بينما يصف نتالى بينت، وزير التعليم الإسرائيلى وحليف نتنياهو فى الحكم، يوم الاتفاق بأنه الأسوأ فى تاريخ العالم لأنه فى هذا اليوم ولدت قوة نووية كبرى شريرة.. وأظن أن خسارة الصقور الإسرائيليين وفى مقدمتهم نتنياهو ضخمة وكبيرة، لأن نتنياهو شن حملة شعواء على الاتفاق بدعوى أنه يهدد أمن إسرائيل وأمن الولاياتالمتحدة وأمن العالم أجمع، وهرع إلى الكونجرس الأمريكى ليلقى فى اجتماع مشترك لمجلسيه خطاباً عاصفاً هدد فيه بأن يخوض وحده حرباً على إيران لتدمير بنيتها وكافة مؤسساتها النووية، وفرض شروط مستحيلة للموافقة على أى تسوية سلمية مع إيران، فى مقدمتها التخلص من كل مخزونها النووى المخصب (10 ملايين طن) وتدمير كل أجهزة الطرد المركزى (19 ألف جهاز)، ومنعها من تخصيب جرام واحد من اليورانيوم، وتدمير كل مؤسساتها ومعاملها النووية، لكن شيئاً من هذه المطالب لم يتحقق فى الاتفاق الذى أنجزه أوباما، وتدعمه دول أوروبا وفى مقدمتها ألمانيا وإنجلترا وفرنسا إضافة إلى روسيا والصين. وحظى بموافقة مجلس الأمن فى اجتماع خاص، ما يعنى رفع العقوبات المالية والبترولية عن إيران، ويعزز شرعية اعتراف المجتمع الدولى باتفاق التسوية السلمية. ولأن حملة نتنياهو انتهت على «فشوش»، كما يقولون، ولم ينفذ نتنياهو أياً من تهديداته باللجوء إلى عمل عسكرى منفرد يدمر بنية إيران النووية، اكتشف الجميع الضعف المتزايد فى مكانة إسرائيل الدولية وقدرتها المحدودة على التأثير فى مجريات عالمنا الراهن، وربما يكون واحداً من الآثار المهمة للاتفاق داخل إسرائيل تزايد ضعف مكانة نتنياهو الذى يحكم تحالفه بأغلبية صوت واحد، لأنه فوت على إسرائيل فرصة التأثير على الاتفاق وتحسينه بفرضه شروطاً مستحيلة يصعب على كل الأطراف قبولها، وبرغم خسارته الفادحة لا يزال نتنياهو يعلق بعضاً من آماله على قدرته فى التأثير على أعضاء الكونجرس الأمريكى الذى يناقش الاتفاق على مدى 60 يوماً، مستثمراً معارضة الجمهوريين للاتفاق لأنه رفع العقوبات المالية والبترولية عن إيران مرة واحدة ودون تدرج، ولم يمس أياً من مؤسسات البنية التحتية للبرنامج النووى الإيرانى التى لا تزال على حالها لم يلحق بها أى دمار أو تدمير، ولأن الاتفاق كما يراه الجمهوريون يطلق يد طهران فى برنامجها النووى بعد 15 عاماً تفعل ما تريد، تطور وتحدث وتخصب دون أى التزام، فضلاً عن أن الاتفاق لا يضع أى شروط أو قيود على دعم طهران لحلفائها، سوريا وحزب الله والحوثيين وجماعات العنف فى الشرق الأوسط، لأنه ببساطة مجرد اتفاق حول قضايا نووية يخاطب قضية واحدة تتعلق بضمانات منع إيران من الحصول على قنبلة نووية، ويؤكد الرئيس الأمريكى أوباما أن الاتفاق حقق هذا الهدف بنسبة 100%، لأنه أغلق كل الطرق التى يمكن أن تعطى إيران فرصة صنع سلاح نووى. ولأن الرئيس أوباما يعرف مدى خطورة تأثير بنيامين نتنياهو على الكونجرس؛ يحاول جهده استرضاء رئيس الوزراء الإسرائيلى الذى يمارس جميع صور الابتزاز للحصول على حفنة مكاسب سياسية تعزز تحالف واشنطن وتل أبيب ضد حزب الله، وتعطى إسرائيل امتيازات تكنولوجية وعسكرية تحقق لها المزيد من التفوق الاستراتيجى، خاصة أن نتنياهو يدرك فى أعماق نفسه أن الاتفاق سوف يمر فى الكونجرس مهما تكن المصاعب، لأن الرأى العام الأمريكى يرفض حرباً جديدة فى الشرق الأوسط مع إيران، ويساند الاتفاق الذى يحظى بتوافق عالمى واسع. وربما يكون الطرف الخاسر الثانى هم المحافظون الإيرانيون داخل حوزة الحكم وخارجها، الذين يعتقدون أن الاتفاق يكاد يكون نوعاً من الاستسلام الكامل لضغوط وشروط أمريكا والغرب، وأن على المرشد الأعلى خامنئى أن يتجرع كأس الهزيمة لأن إيران قدمت فى الاتفاق تنازلات جد خطيرة بغير حصر، كما تجرع خمينى كأس السم عام 1988 إثر الانتصار العسكرى الذى حققه العراق على إيران.. ويعتقد المحافظون الإيرانيون أن إيران قدمت العديد من التنازلات الضخمة، أولها تصدير 10 أطنان من مخزونها من اليورانيوم المخصب خارج البلاد والإبقاء على 300 كيلوجرام فقط فى الداخل، وخفض عدد وحدات الطرد المركزى فى معامل إيران من 19 ألف وحدة إلى أقل من 6 آلاف، وإلزام طهران بعمليات التخصيب المنخفض فى حدود 3.7 درجة لا تزيد، وتعهدها بتغيير قلب مفاعل «أراك» الذى يعمل بالماء الثقيل وإعادة هندسته فى إطار رقابة دولية بما يحول دون تخصيب أى كمية من البولوتونيوم، وتجميد ثلثى وحدات الطرد المركزى المتطورة التى تعمل فى معامل «فوردو» تحت الأرض قريباً من مدينة قم، ورضوخ إيران لمراقبة كل مواقعها النووية على مدار اللحظة من قبل مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذين يملكون حق التفتيش المفاجئ على أى مواقع بما فى ذلك المواقع العسكرية. لكن ما يثير غضب المحافظين الإيرانيين غير هذه التنازلات قلقهم المتزايد من ارتفاع أسهم الإصلاحيين فى أوساط الرأى العام الإيرانى، والاحتمالات المتزايدة لحصولهم على الأغلبية البرلمانية فى انتخابات مارس المقبل، وتزايد فرص الرئيس حسن روحانى فى كسب فترة رئاسة ثانية عام 2017، وجميعها مؤشرات واضحة تدل على تنامى تيار الاعتدال داخل إيران الذى يحظى بمساندة شعبية عالية فى أوساط الشباب والنساء، وتزايد طلب المجتمع الإيرانى على مطالب الإصلاح السياسى والمناداة بتوسيع مجالات الحريات العامة والخاصة، فضلاً عن الضعف المتزايد فى مكانة المحافظين وقوتهم، لأن الاتفاق يحظى بمساندة شعبية واسعة تجسدت فى خروج عشرات الآلاف من المتظاهرين، يرقصون فى الشوارع والميادين ابتهاجاً بالاتفاق الذى سوف يرفع العقوبات المالية والبترولية عن إيران فوراً، ويزيل الحظر المفروض على أرصدتها المالية المجمدة فى بنوك الخارج (12 مليار دولار)، ويضاعف دخل الخزانة الإيرانية من عائدات البترول التى كانت قد هبطت إلى حدود 30%، ويمكن إيران من معالجة مشاكلها المالية، ومضاعفة الإنفاق على أبحاثها النووية والعسكرية، والتوسع فى مشروعات التنمية بما يضمن تحول إيران إلى دولة ناهضة. وبرغم تخوفات غربية عديدة من عزم تيار المحافظين الإيرانيين على إثارة أعمال العنف والتضييق على الإصلاحيين بدعوى حماية إيران من الثورة المضادة، فإن خيوط لعبة التوازن بين المحافظين والإصلاحيين فى إيران سوف تبقى فى يد المرشد الأعلى خامنئى الذى يملك أدوات القوة الحقيقية فى المجتمع الإيرانى، الجيش والأمن والمخابرات والإعلام، ويراقب بدقة المتغيرات التى تطرأ على المجتمع الإيرانى، وتجعله أكثر ميلاً إلى الانفتاح على العالم وتحسين علاقاته الدولية، وأكثر رغبة فى تحقيق انفراجة داخلية تحسن أوضاع الحريات العامة، خاصة أن قوى التغيير فى المجتمع الإيرانى التى قادت الثورة الخضراء قبل عامين تستطيع الدفاع عن مكاسبها فى وجه تشدد المحافظين. وما لم يفطن العرب إلى خطورة التطور الذى طرأ على إيران بسبب الاتفاق النووى الذى فتح لها آفاقا جديدة يمكن أن تنقلها من حال إلى حال، فسوف تزداد المسافات اتساعاً بين فارس والعرب، وسوف تظل اليد الطولى لمن يقبل التحدى، ويدخل المنافسة بشجاعة، ويؤمن بأن أمنه واستقراره يمكن أن يتحقق فقط عبر تنمية قدراته الذاتية، وليس اعتماداً على عون الآخرين.