سعت الإنسانية على اختلاف عصورها لتحرير الإنسان من أى ضغط أو إكراه حتى يكون فى وسعه إذا ما تجرد من الخوف والجوع وسائر ما يؤثر فى إرادته أن يعبر عن ذاته وعن مجتمعه بالطريقة التى يعتقد أنها صحيحة. وقد واجه الناس فى معظم الأزمان مخاطر التعرض لعقوبات شديدة تصل إلى حد القتل بسبب رغبتهم فى التعبير عن آرائهم بوضوح وحرية. وبالرغم من أن مبدأ حرية الرأى والتعبير أصبح من البديهيات التى لا ينازع فيها أحد فإن تفسير معنى حرية التعبير يختلف اختلافاً كبيراً عند التطبيق من نظام سياسى إلى آخر، ففى النظم الديمقراطية تعد حرية التعبير والصحافة والإعلام هى حجر الزاوية فى الممارسة الديمقراطية ويتم ضمان هذه الحرية من خلال النصوص الدستورية، بينما تحرص النظم السلطوية على تقييد هذه الحرية عبر نصوص دستورية فضفاضة يمكن سلبها كلية عبر تفاسير النصوص القانونية المقيدة لكل أشكال الحريات. وقد لاقت الدعوة إلى حرية الرأى والتعبير دعماً كبيراً نتيجة ذيوع أفكار الفيلسوف البريطانى «جون ميلتون» (1608 - 1674) الذى أعلن أن الحرية هى أن تعرف وأن تقول ما تريد دون قيود، وهو الذى أعلن أيضاً أنه «إذا آمن كل البشر برأى ما، ثم جاء شخص واحد برأى جديد يخالف رأى الجموع، ثم حاول كل البشر أن يسقطوا هذا الرأى الوحيد، يكون خطأ البشرية فى ذلك لا يقل عن خطأ الفرد الواحد حين يحاول إسقاط الرأى الذى اجتمعت عليه البشرية». ويقرر «ميلتون» أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الصواب فى مسألة من المسائل حتى يستمع إلى آراء المخالفين له فى هذه المسألة، ذلك أن الحقيقة لا تضمن لنفسها البقاء إلا إذا أتيحت لها الفرصة لأن تتقابل وجهاً لوجه مع غيرها من الحقائق فى وضوح وحرية تامة. وقد رأى «ميلتون» أنه من غير المنطقى أن نفترض أن أية حكومة تستطيع إرضاء جميع الناس، ومن غير الطبيعى أن نفترض أن أى تصرفات تقوم بها الحكومة سوف تحقق العدالة، ولكن إذا كان لدى الناس حرية القول والكتابة عن سياسات الحكومة، وإذا كان من يحكمون يرغبون فى الاهتمام بهذه الكتابات، فإن النتيجة المنطقية ستكون تقدم أداء الحكومة، وتحقيق رغبات الناس. ويرجع الفضل إلى «جون ميلتون» فى وضع مفهوم «السوق الحرة للأفكار»، حيث يكون لدى كل الأفراد الحرية فى التعبير عن أفكارهم، وكان واثقاً أن عملية طرح كافة الأفكار سوف تؤدى إلى ظهور الحقيقة وتمحو الزيف والباطل، ويبرز صدى هذه الكلمات فى عالم اليوم لدى من ينادون بحرية تقديم كل الأفكار من خلال النشر أو البث الذى يتيح للمتلقى معرفة الحقائق بنفسه. ولعل فكرة صياغة الدساتير تعود إلى الفيلسوف البريطانى «جون لوك» حين نشر كتاباً بعنوان «المعالجات» Treatises عام 1690 ودعا فى هذا الكتاب إلى نقل سلطة الملوك الذين يستخدمون مفهوم «الحق الإلهى» إلى البرلمان الذى يمثل الشعب، وقد وردت كلمة الدستور Constitution لأول مرة فى هذا الكتاب باعتباره وثيقة تحدد سلطات الدولة ومجالاتها، ورأى «لوك» أن سلطات الدولة يجب أن تنقسم إلى ثلاثة أجزاء هى: سلطة تشريعية منتخبة لها حق سن القوانين، وسلطة تنفيذية تعمل على كفالة الحياة الكريمة للمواطنين وتنفيذ القوانين، وسلطة قضائية لها الفصل فى القضايا وتحقيق العدالة - وفى جميع الأحوال لا بد أن تحرص كل سلطات الدولة على مكتسبات الناس الشخصية والطبيعية، ويكون للناس الحق فى مقاومة المسئولين الذين يسيئون استخدام سلطاتهم التى يخولها لهم القانون. بدأت أفكار «لوك» تنتشر تدريجياً فى إنجلترا، ثم امتدت إلى المستعمرات الأمريكية خلال القرن الثامن عشر، ثم وصلت إلى فرنسا أواخر القرن الثامن عشر، وقد أدى كل ذلك إلى تحوّل فى الفكر السياسى فلم تعد السلطة تتدفق من أعلى إلى أسفل، ولم يعُد مطلوباً من المواطنين العاديين الطاعة العمياء دون مناقشة، وتغيرت السلطة فى بعض أجزاء العالم الغربى إلى الشعوب، ومع تغير السلطة جاء حق الناس فى اختيار الحكام وتنحيتهم عند إساءة استخدام السلطة، وامتد ذلك أخيراً إلى حق الناس فى انتقاد هؤلاء الذين يتولون مسئوليات عامة، وأصبح الشعب هو المالك وهو السيد «وللحديث بقية».