"إني أناشد ضمائر أولئك الذين يضطهدون، ويعذبون، وينهبون، ويذبحون غيرهم من الناس بدعوي الدين، أن يخبروني هل يفعلون ذلك بدافع من المحبة والإحسان؟.. "، هكذا تساءل الفيلسوف والمفكر السياسي الإنجليزي جون لوك المولود عام 1632، في رسالة تركها قبل أن يرحل، أسماها "رسالة في التسامح". "رسالة لوك في التسامح" ترجمها أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، الراحل الدكتورعبد الرحمن بدوي، الذي تولي إنشاء قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، وكان عضوا باللجنة التي وضعت دستور "1954"، والكتاب صدر مؤخرا عن "مركز عبد الرحمن بدوي للإبداع"، مرفق ب"تصدير عام" تعرض فيه المترجم إلي تعريف التسامح، وعرض تاريخ التسامح واللا تسامح في المسيحية، وذكر الأوضاع الدينية في إنجلترا في عصر جون لوك، واضطهاد الكنيسة الإنجليكانية للمذاهب الأخري، ثم الدفاع عن "المخالفين" والدعوة إلي التسامح في إنجلترا وبعدها في هولندا وفرنسا". الكتاب إذا يعرض التسامح من وجهة نظر فيلسوف عاش فترة التناحر بين المذاهب المسيحية من ناحية والتناحر بين الكنيسة وأباطرة إنجلترا من ناحية أخري، إلا أن عبد الرحمن بدوي يري في "رسالة لوك للتسامح" استشرافا لآفاق أوسع من ظروف انجلترا وتحمل في ثناياها دعوة حارة إلي حرية الضمير بوصفها حقا طبيعيا لكل إنسان. في الكتاب، يقدم لنا بدوي، "جون لوك" وسط حالة تغيرات الفكر التي حدثت له، فنجد "لوك" في البداية كتب رسالتين عن التسامح عامي 1661 و1662، أقر فيهما بالسلطان المطلق للحاكم، وينكر فيهما مطالب الأفراد حول الضمير والحرية، بل وطالب باستعمال العقوبات والقوة القاهرة ضد المخالفين، وظل في ظل إيمانه بأن دعاوي المخالفين هي في الواقع أقنعة تمكّن الأفراد من أن يصبحوا عصابات للفتن الخطيرة. "لكن لوك لم يستمر علي هذا الموقف طويلا"، هكذا يخبرنا عبد الرحمن بدوي وهو يستعرض "لوك في الطريق إلي الإقرار بالتسامح"، حيث كتب "بحثا في التسامح" لم ينشر إلا بعد مرور قرنين علي رحيله في كتاب "حياة جون لوك"، وفيه بدأ يميل إلي التسامح وحدّ من سلطة الحاكم المدني، بل وصف المخالفين بأنهم يتبعون اقتناعات ضمائرهم بإخلاص ولا محل إذن لاستخدام القوة القاهرة كي يغيروا آراءهم، وبعدها كتب "لوك" في "مذكرات" عام 1679، أن "ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض علي انسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو .. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان ولا لأية جماعة، ولا يمكن أي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوق إطلاقا". وفي رسالته، التي لخصها عبد الرحمن بدوي، يؤكد "لوك" علي أهمية التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية وبين مهمة السلطة الدينية، وأن رعاية نجاة روح كل إنسان هي امر موكول إليه هو وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلي أية سلطة مدنية أو دينية، وأن التجاء رجال الدين إلي السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم هم في السيطرة الدنيوية، وأنه ينبغي علي الحاكم ألا يتسامح مع الملحدين لأن لا أمان لمن لا يؤمن بالله، ولم يفت عبد الرحمن بدوي توجيه ملاحظات علي أفكار لوك منها أن التسامح الذي يدعو إليه قاصر لأنه يستثني من التسامح طائفتي الكاثوليك والملحدين.