قصير القامة، مُسرع في خطواته، متأنق حد الإزعاج، يزيّن معصمه ساعة فاخرة بدا حجمها وثقلها مبالغًا فيهما مقارنة بيديه النحيلتين، لا يتخلى أبدًا عن ارتداء بدلة فخمة وحذاءً لامعًا من علامة تجارية مشهورة، هكذا كان يظهر أمامنا في كل محاضرة، أجلس في مقعدي أُراقبه وهو يتحدّث بشغفٍ وحماسٍ، لم يكن أسلوبه محبّبًا للجميع، فكان حادّا في نقده، لا يتقبّل الرأي المُخالف، ويُطلق العنان لكلماته الجارحةٍ بحقّ الفقراء، مُتهمًا إيّاهم بالكسل وقلّة العمل وأنّهم جهلاء كثيرو الإنجاب، ولا أريد أن أذكر نص وصفه غير اللائق لهم. يتحدث الأستاذ الجامعي في كل مرة وكأنّه يُحارب عدوًا لدودًا، لم أكن أفهم غضبه وحِدّته آنذاك، فكنت أرى في كلامه تهجّمًا على الفقراء، واتهامًا لهم بكل ما يمكن تصوره من صفات سيئة، كان أستاذ مادة الاقتصاد يرى في الزيادة السكانية لعنة تُلاحق المجتمعات، فكان يُردّدُ خلال محاضراته باستمرار «الفقراءُ أسُّ الفساد»، ويُصر ذو الرأي الجازم على ربط الفقر بالكسل وقلة الوعي، مُحمّلًا إياهم مسؤولية الزيادة السكانية المُفرطة، مُتناسيًا الظروف القاسية التي تدفعُهم إلى ذلك. مجموعة من زملائي حاولوا تفنيد أفكاره بأبحاث علمية ودراسات إنسانية، لكنه رفض الاستماع إلى نتائجها كاملة، مُتمسكًا برؤيته المُتشددةِ، تاركًا في داخلنا شعورًا بأنّ الأمر «وراه إنّ»، خاصة أنَّ أغلب طلابه لم يكونوا من أبناء المدينة، بل قدّموا من القرى برفقة عائلتهم التي تسعى جاهدةً لتوفير تعليم جيد لهم. «الأستاذ إيّاه» ذو الشخصية القوية كان أسلوبه صارمًا خاصة مع طلابه الذين يخطئون، ففي إحدى المحاضرات، أجاب زميلي المغترب باندفاعٍ على سؤال بشكل خاطئ، فما كان من الأستاذ إلا أن نهره بعنف ودون أن ينظر له قائلًا: «بس يا فقير»، أتذكّر هذا الموقف جيدًا، جلس زميلي ووجنتيه حمراوين من شدّة الخجل والغضب، لم يكن ذلك الموقف هو الأول من نوعه، فقد اعتاد الأستاذ التنمر على طلابه الفقراء فقط، مُستخدمًا عبارات مهينة. انتشرت كلمات الأستاذ بين طلاب الجامعة، فباتوا يتداولونها بسخرية، مُقلدين نبرة صوته الجارحة، كانوا يُلقبونه ب«الفَقري»، ويُحاكون لهجته اللاذعة كلّما أرادوا التعبير عن سخطهم من تصرفاته. وفي أحد الأيام وبعد انتهاء المحاضرة، اقترب مني أحد طلاب الأستاذ إيّاه، وسألني إن كنت أرغب في سماع قصته، بصراحة لم أُمانع أبدًا، فأصغيتُ باهتمام، حكى لي المعيد عن طفولة أستاذه البائسة، وكيف كان يعيش رفقة إخوته الخمسة ووالديه وجدته في غرفة واحدة صغيرة داخل «بدروم» إحدى العمارات الفاخرة، تسع أشخاص في غرفة واحدة! في تلك اللحظة، فهمت سبب نظرة الأستاذ للزيادة السكانية، لقد عاش هو نفسه تجربةً قاسيةً جعلته يُؤمن بأنّ الفقر والجهل هما السببُ الرئيسي لزيادة عدد السكان، وأنّ هذا الأمر يُؤدي إلى تفاقم المشكلاتِ الاجتماعية والاقتصادية، لكن قصته الخفية تلك ليست مبررًا أبدًا لأسلوبه الحاد وغير اللائق مع شباب يخطون أولى خطواتهم نحو «حياة المدينة». لم يدرك الأستاذ حينها مدى تأثير كلماته الجارحة على نفوس طلابه، ولم يفهم أنّ الفقر ليس عيبًا، وأنّ التّنمر على أي شخص، مهما كان وضعه الاجتماعي أو المادي هو سلوك مُرفوض تمامًا، وأن الزيادة السكانية ليست قضيةً إحصائيةً بحتة، بل هي قضية إنسانية مُعقدة تتطلب حلولًا إنسانيةً شاملًة، ويجب محاربتها بنشر الوعي والتخطيط لمستقبل أفضل للأجيال القادمة، وحتى لا نُخرج للمجتمع شبابًا يحملون عُقدًا نفسية مثل «الأستاذ إياه».