تتناثر ذرات التراب من حوله.. متراقصة فى عِند.. لتعانق اليد الخشنة مقشة البلدية بإصرار وقد أدمتها كثيراً وأورثتها خشونة لا تزول حتى تزيل أدران البشر.. ينحنى فى استسلام، يلتقط نفايات ألقاها لتوه بلا اكتراث رجل وجيه، كاد يصدمه بسيارة فارهة.. لا يراه من خلف زجاج معتم. يشعر بغضب من المتسولين بزى عمال نظافة كذباً.. ما زالت آثار كبرياء لم يستطع وأده فى أعماقه تجرحها نظرات كثيرة، بعضها شفقة وكثيرها ازدراء.. يندى جبينه متقبلاً بخجل إحسان المحسنين، تذبحه أياديهم الممتدة بحسن النوايا.. لا يستوعب عقله أن مكافأة أحدهم لحضور لجنة واحدة ليتحدثوا عن التغيير والعدالة الاجتماعية، كفيلة بتغيير حياته وجعلها أكثر عدلاً.. أما «بِدَل» سفر أحدهم إلى أحد مؤتمرات محاربة الفقر، فستقضى على فقره إلى باقى العمر.. ينظر إلى نتيجة (شقاه) فى يوم لا تعرف شمسه الرحمة.. يبتسم فى سعادة.. يفترش ركناً صغيراً على رصيف الكوبرى، يؤدى فرض الله برضاء عجيب.. يلتقط بعض السيارة صورة له وينشرونها بمواقع التواصل الاجتماعى.. تحصد ملايين من علامات الإعجاب (الافتراضى). يعود إلى بيته المتواضع حاملاً ما تيسر من قوت ووعود بغد يصاحب أحلام البسطاء.. يفخر بكفاح يشق ظلمات الأرض لترى البراعم نور الشمس.. يعتذر لصغيره، فلن يستطيع شرح مسألة صعبة فى واجبه المدرسى، حيث لم يتسع فصل دراسى واحد لمقعد له فى دولة تكلف الفصل الدراسى 200 ألف جنيه بمرافق هزلية وخدمات هزلية طبقاً لمواصفات هيئة الأبنية التعليمية، ويقيم السادة المسئولون بالوزارة ذاتها فى الأجنحة الفاخرة فى «فور سيزونز»، حيث الليلة الواحدة تتكلف 4000 جنيه لحضور مؤتمرات تحسين التعليم، بينما على الجانب الآخر من الكرة الأرضية شقت ماليزيا طريقها إلى الحضارة (بنخلتين وضُليلة) ورجال شرفاء أصحاب عقيدة ورسالة، (فتلك كانت مدارس الريف هناك حتى وقت قريب). تمر السنوات ويتساقط الجميع من أرجوحة التعليم المتهالكة.. لكن يتشبث ابنه الوحيد باستماتة.. يسانده شغف بالعلم وقدرات حباه الله بها.. يطلق لجياد أحلامه العنان.. يفرح الأب الملهوف.. يستميت.. يستدين.. يحمل الزلط والطين.. (مقاوحاً) آلام الغضروف، وسنين قهرت بنيانه الضعيف، ومصائب لا تأتى فرادى، فأمراض الفقراء لبعضهم أوفياء.. الروماتيزم اللعين يتآمر مع فقر الدم وبيئة تنهش كبده.. وروشتة العلاج لا تُصرف بمعرفة طبيب المستوصف القريب بجنيهات قليلة، لكن تحتاج إلى أن تُصرف من الجزار والفكهانى والبقال. يتخرّج أخيراً، فيتجرّأ الشاب الطموح.. بعد سنوات المعاناة و(مرمطة العمل) فى الإجازات وغيرها، لتبوؤ موقع تحت الشمس.. وقد أخذ بالأسباب واجتهد وكافح.. هكذا علّموه فى المدرسة، وهكذا قالها شيخنا فى الجامع وأبونا فى الكنيسة.. هكذا قالها «بوذا» لأتباعه و«كونفوشيوس» لمريديه، و«سقراط» لتلاميذه.. و«غاندى» لمحبيه.. والأدباء فى رواياتهم والشعراء فى قصائدهم لكن.... كلمة صغيرة لمسئول كبير تنصب المقصلة لكل الأحلام، حتى بلا أمل لتلك الاستثناءات الربانية.. دون أى معايير موضوعية لاختبار المهارات العلمية والمهنية والأخلاقية وحتى الاجتماعية، وليسقط من يسقط، ولينجح من ينجح دون عنصرية. ولكن شموخ القضاء لا يليق به ابن عامل النظافة.. أما عن ماسح الأحذية الذى أقام العدل فى البرازيل.. العظيم «لولا دى سيلفيا» فليذهب إلى الجحيم. ووزارة الخارجية لا تقبل أن يكون من رسلها ابن عامل النظافة.. أما رعاة الغنم الذين كانوا رسل الله إلى الإنسانية كلها (!!)، فلا تعليق تأدُّباً، حتى لا نتجاوز مع الذات العليا، ولو افتراضياً. ووزارة الحربية لا يليق بها ابن عامل النظافة.. أما أسامة بن زيد ابن الخادم الذى قاد جيشاً به عمر بن الخطاب وأبوبكر الصديق إلى النصر.. فلعله كان وهماً يجب تجاهله.. ولا عزاء للشهداء الفقراء الذين ماتوا حتى يعيش السادة المسئولون وأبناؤهم المتهرّبون غالباً من التجنيد أو شاهدوه (فيديو) فى المكاتب المكيّفة، ليتقلّدوا أكبر المناصب ويعتلوا المنصات وينظروا إلى قبورهم من عليائها باحتقار. يا ابن عمرى.. لقد حاولت قدر جهدى أن أعلمك أشياء كثيرة.. الصدق.. الأمانة.. الإخلاص.. المثابرة.. الرضا.. لكننى لم أعرف كيف أعلمك الإمساك بالشوكة والسكينة.. ارتداء الملابس الفخيمة.. نطق اللغات بطريقة أنيقة.. ارتياد أماكن يحتسون فيها الخمور العتيقة.. والأهم نسيت أن أعلمك أن تختار أن تنحنى وتدرك أنك مواطن من الدرجة الثانية.. أو تكون (قليل الأصل) وتدفن عارى.. فإن كان لحياتى سبب.. فيبدو أن لموتى الآن أسباباً.. ولكن ستظل لعنتى تطاردك حتى النهاية.. فجريمة الهاربين بأموال الشعب والفاسدين وتجار السلاح يغفرها المجتمع، أما فقر الحال.. ضعف الحال.. فهو جريمتى التى لا تغتفر.. فلو سألوك عن العدل فى بلادى لا تقل مات عمر.. بل ماتت أشياء كثيرة.. سامحنى يا صغيرى أنى أنجبتك فى بلاد للعدل فيها مفهوم آخر.. ينقصه شىء مهم اسمه.. العدل.