فى القرن الخامس عشر، كان الأُمّى هو الشخص الذى لا يعرف كيف يكتب اسمه، وكان ما يقارب 80٪ لا يعرفون كيف يكتبون أسماءهم، حسب تقرير ورد فى مجلة «فورتشِن». إلى أن جاءت طابعة جوتنبيرج وانتزعت القراءة والكتابة من ملكية رجال الكنيسة والعلماء. وفى العصر الحديث، كان التصوير أيضاً مقتصراً على المصورين المحترفين غالباً، والهواة أحياناً. وأذكر أنّنا كنّا لا نشترى كاميرا إلا ونسارع فى البحث عمّن يعلمنا كيف نستخدمها، وكانت أسعار الكاميرات غالية فكنّا نأخذ واحدة كل عدة أعوام، ولا نستخدمها غالباً إلا فى السفر. ثم جاءت الهواتف الذكية لتحدث انفجاراً أشبه بالذى أحدثته طابعة جوتنبيرج، لكنه انفجار بالصوت والصورة، قَرّب الإنسان إلى إدراك الحقائق أكثر من كل مطابع العالم، وصار التقاط الصور والفيديو أسهل من كتابة جملة باستخدام ورقة وقلم. قرأتُ فى مجلة «بيزنس إنسايدر» تقريراً يقول إنه فى العام 2017 ستكون 90% من المواد المنشورة فى الإنترنت عبارة عن فيديو وصور. أخافنى التقرير، ليس فقط لكونى كاتباً والنصوص هى حياتى، ولكن إلى جانب ذلك، لأنه يبدو أننا بتنا لا نفهم متغيرات الحياة جيداً. ذكرتُ هذه المعلومة لمجموعة من الأصدقاء فقالوا إن النصوص ستبقى أبداً، فسألتهم: «ما عنوان آخر كتاب قرأتموه؟ كم مقالاً تقرؤون فى اليوم؟ وفى المقابل كم صورة وفيديو تشاهدون فى اليوم؟» سكت الجميع فعرفتُ الإجابة. اشتركتُ قبل مدة فى برنامج «سناب شات» الذى عندما أراد «فيس بوك» شراءه قبل مدة قصيرة كان رد صاحب «سناب شات» -الذى يبلغ من العمر 24 عاماً- على مارك زوكيربيرج: «إن عمرك كبير على سناب شات». كان العرض قرابة ثلاثة مليارات دولار، أما اليوم فإن قيمته السوقية تبلغ 19 مليار دولار. لقد انتشر هذا البرنامج بسرعة مهولة لأنه بسيط جداً، لا يتكلف مستخدمه عناءً لإرسال صوره وفيديوهاته إلى الآخرين. كل ما عليه فعله هو الضغط على زر واحد لعشر ثوانٍ ثم يرسله، وانتهى الأمر. واليوم يشترك فى «سناب شات» أكثر من 100 مليون شخص، يرسلون يومياً أكثر من 400 مليون فيديو وصورة ورسالة. أما فى «يوتيوب» فهناك أكثر من 300 ساعة فيديو تُرفع إليه كل دقيقة، وفى كل ثانية تتم مشاهدة أكثر من 46 ألف فيديو. وفى كل يوم يتم رفع أكثر من مليارى صورة إلى الإنترنت. فى خضم هذه الأرقام الفلكية، أتساءل: مَن يقرأ؟ مَن يكتب؟ من يُناقش النصوص الأدبية؟ من يحفظ الشعر؟ من يعرف قواعد اللغة؟ أشعر أحياناً بالشفقة على الذين يقضون يومهم كله وهم يكتبون تغريدات فى تويتر أو مقالات فى «فيس بوك» والصحف فلا يقرؤها إلا النخبة. وأضحك على نفسى وأنا أكتب هذا المقال ظناً منّى أن كثيرين سيقرؤونه. ربما كنت أكتب لأوثّق ما أفكّر به، ولأقول للناس يوماً: «لقد قُلت لكم هذا الكلام قبل سنوات». فى محاولة يائسة لأحافظ على مكانة بسيطة لى فى عالم المعرفة. أربكتنى هذه الكلمة عندما كتبتها الآن «المعرفة» وتساءلتُ: كيف ستكون المعرفة فى السنوات العشر المقبلة فى ظل انحسار النص الذى قد يعود ليكون نخبوياً، تماماً مثلما كان قبل جوتنبيرج! هل هذا يعنى أن العالم بدأ يصبح تافهاً أكثر من ذى قبل؟ لا أدرى، لكننى أدرك أن القوالب المعرفية التى عرفها الإنسان منذ القِدم، كالنصّ والكتاب، لن تعود صالحة للتعليم قريباً. كان أحد أصدقائى جالساً يكتب باستخدام كمبيوتره المنزلى، فدخل عليه أحد أطفال العائلة ورآه ممسكاً بالفأرة بجانب لوحة المفاتيح، فسأله عنها؟ فقال -بالإنجليزية- إن اسمها فأرة. فسأله الطفل: وما الفأرة؟ عندها أدرك صديقى الثلاثينى أن العالم تجاوزه جداً، فحتى الفأرة وجهاز الكمبيوتر -الذى يتصل بالشاشة عن طريق الأسلاك- صار «موضة قديمة» قاربت على الانتهاء، وصار العالم كله حبيس الهاتف والآيباد. كتب أحد الزملاء مقالاً قبل مدة يتحدث فيه عن النجوم الجدد فى الإعلام الاجتماعى، قرأتُ المقال وشعرت -رغم أنى أبلغ من العمر 36 سنة عند كتابة هذا المقال- بأنى كبير جداً. شعرتُ وأنا الموجود فى «سناب شات وتويتر وفيس بوك وإنستجرام ويوتيوب»، بأن الفارق بين الجيل الجديد وبينى كالفارق بينى وبين رجل شارك فى الحرب العالمية الثانية، كان عمره حينها 36 سنة، عاش حتى الآن لا ليخبرنا عنها، بل ليكون دليلاً، بتشوهاته وتجاعيد وجهه وأمراضه القاسية، على أنها كانت فادحة جداً. ربما النص لن يموت، لكن على الكُتّاب أن يتجاوزوا شهوة الكتابة. عليهم أن يكونوا أكثر تواضعاً ويشاركوا أفكارهم بالصوت والصورة، ولا يكونوا كذاك العجوز الذى ظنّ بعد انتهاء الحرب بأنه على وشك الموت، فترك كل شىء واستعد للنهاية، إلا أنه عاش عُمْراً أكثر مما ظَنّ، لكنه أضاعه فى انتظار الموت، بدل أن يقضيه فى صناعة الحياة.