تأتى أعياد الربيع محملة بالوعود.. ألبّى انتظار حقائبى التواقة للسفر.. أملأها بتفاصيل كثيرة: ردائى المفضل، كتاب يعاتبنى وقد هجرته منذ العطلة الأخيرة فى الجنوب، أوراق مبعثرة أبثها هواجسى وأحلامى، ونوستالوجيا الأيام الخوالى.. أتمنى لو يمنحنى ألبرت إينشتين أحد أشعته النسبية الراحلة بأجمل ذكرياتنا إلى الكون اللانهائى فأمتطى جياد الزمان وألحق بها لأستعيد أحلاماً ليس لها تاريخ نهاية صلاحية.. إنها وعود بأجمل الأيام التى لم تأتِ بعد لكنى أودعت ملامحها ووصفها ببعض أشعته الراحلة بعيداً.. ومرت السنون.. وتاهت منى التفاصيل.. أرنو إلى السماء.. أعرف أنها هناك تعانق أحد النجوم. وكلما وطئت قدماى أرضاً جديدة، ازددت عمراً جديداً.. تورثنى الموانئ المزيد من الذكريات.. تمنحنى حيوات أخرى ربما عشتها فى أبعاد لا ندركها.. بلاد الشمال وغرور الحضارة.. بلاد الشرق البعيد وجنون آلهة تمشى بين البشر.. بلاد الجنوب وإيقاعات لا تعرف الخجل. لكن حقائبى لا ترتاح ولا تهدأ إلا هناك فى مرافئ الوطن.. تندهنى (ندّاهتها) بتعويذتها الأبدية.. إنها الإسكندرية تلك الجنّيّة المسحورة آسرة الملوك، ملهمة الشعراء.. أنتظر مواعيدها بوَله المشتاق، لألقى بأحزانى على شراع موجة عفية بوعد السفر لبلاد النسيان، هنالك على الجانب الآخر حيث لن نراها أبداً. أما البحر.. ذلك العاشق، الثائر، الحائر، الغامض، البرى، المجنون الذى لا يعرف الحضارة.. فأعشقه وأخشاه، فبيننا أسرار وحكايات ورفاق رحلوا ولم يعودوا أبداً.. يعرف كيف يحتوينى، يسلبنى بعضاً من إرادة مرهَقه.. أعترف له بما صنعته بى الأيام.. يبكينى، يضحكنى، يلومنى على بعاد اقترفته دون إرادة منى.. يعيدنى فى لحظات تلك الفتاة الصغيرة تعانق أقدامها الماء، تقاوم، تتطاير جدائل شعرها وطرف فستانها فى حياء.. أضع ودعة أهدانيها البحر على أذنى.. تردد أصداء «أنا هويت وانتهيت، وليه بقى لوم العزول».. وآه من الشيخ سيد درويش ووجع فى القلب يعرف كيف يواسيه، يمنحنى رحلة لا أملها على إيقاع تطاير جدائل حصان ودود، يميل على البحر مع الهواء ليقود (الكارتّة) فى خيلاء.. أحتضن شوارعها وحواريها، يصاحبنى بيرم التونسى ابن السيالة بسؤال أعرف له إجابة «هو صحيح الهوى غلاب؟».. نعم غلاب. أكاد أشاركه الجنون والغيظ وهو يصيح «هاتجن يا ريت يا اخوانا ما رحتش لندون ولا باريس. دى بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ». يمد لى «النديم» يداً لأبتسم لأعظم الصعاليك وأنبل الصعاليك كما وصفه شاعرنا الأبنودى «أدباتى أراجوز نديم صاحبى وخلانى دجال مهرج مركب صوتى فى لسانى وصحيت لقيتنى أعرفك وانتى عارفانى وخدانى من مجلس الضايعين وعلى أعلى منبر يهزك صوتى وكيانى».. يرينى إصدارات مجلاته «الأستاذ»، و«التنكيت والتبكيت» و«اللطائف».. وككل العاشقين مات منفياً وحيداً على الشاطئ الآخر بعيداً عن الوطن فى عاصمة الخلافة العثمانية. ما زالت هيباتيا، أول عالمة رياضيات فى التاريخ، الفيلسوفة أفلاطونية الهوى سكندرية الهوية، تقف بجوار قرص الشمس الساطع من مكتبة الإسكندرية معانقاً البحر تعلم طلابها بشغف مقاييس النجوم، تحمل فى يدها «إسطرلاباً» اخترعته.. وتبتسم رغم الحرق والقتل والظلم. أصفق للشيخ سلامة حجازى.. يصول ويجول بفرقته ومسرحياته مناضلاً ومعلماً على منبر آخر لا يعرف حدود الزمان أو المكان. يبهرنى كفافيس، ابن الإسكندرية، أعظم شعراء اليونان فى العصر الحديث، وهو يعلن فى قصيدته (المدينة) أن البعد عنها هو الموت ذاته: «سأذهب إلى أرض ثانية وبحر آخر.. إلى مدينة تكون أفضل من تلك المدينة.. كل محاولاتى مقضى عليها بالفشل.. وقلبى سيدفن كالميت». أتأمل خليط الحضارة العجيب فى مبانيها.. شوارعها.. عيون تمنحك مع بريقها جزءاً من التاريخ.. هنا بقالة الخواجة ينّى الذى وقع فى حب الماريا فلم يغادرها أبداً. لا تزال بقايا لافتة عم موسى الساعاتى اليهودى وآثار دموع لم يعرف كيف يخفيها -وهو راحل مع الأبناء القساة قلوبهم تاركاً عمره لبلاد لا تعرف التوق- تعلن كيف استطاعت ذات التراب الزعفران أن تذيب كل الثقافات. أتوقف عند مسجد القائد إبراهيم.. يهدأ الموج لدرجة الصمت.. هنا، مات الرفاق ولا تزال الدماء شريدة، شهيدة.. أحاول تجاهل لحظة انكسار.. أنظر إلى البحر مستغيثة.. يعدنى ألا يموت الحلم.. هكذا قال التاريخ.. أصدقه.. أقرأ الفاتحة وأمضى.