قديماً قالوا إن عدم الاستقرار السياسى ينتج عن زيادة فى المطالب السياسية، وهشاشة فى المؤسسات. وهو نفس منطق الفيضان الذى ينتج عن زيادة كبيرة فى ماء الأمطار، مع عدم قدرة مجرى النهر على استيعاب الماء النازل من السماء. وكان الأمل أن يتم تكوين مؤسسات الدولة بسرعة، وأن تتم عمليات التطهير وإعادة بناء قواعد العمل العام من خلال وصول القوى المؤيدة للثورة إلى البرلمان، ومن ثم للحكومة. لكننا تأخرنا، ثم أصبحنا أمام مؤسسات موجودة لكنها غير فعالة، تتصادم أكثر من قدرتها على التوافق، كل واحدة تسعى لأن تعرقل أداء الأخرى. وهو الوضع الذى يتجلى فى العلاقة بين المجلسين: مجلس شورى جماعة الإخوان ومعه مكتب الإرشاد، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وعلى رأسه المشير. هذان هما المتنافسان الكبيران على كرة السلطة «الكريستال»، وبينهما ومعهما العديد من الأشخاص الطامحة لأن تكون فى «الصورة» بحق كان أو بباطل، وما أخشاه أن الكل يندفع بشكل غير منظم واعتباطى إلى كرة السلطة «الكريستال»، حتى إن اقترب أحدهم منها اندفع الآخر تجاهه ليمنعه عنها وتنكسر الكرة. والمعنى الرمزى هنا أن هذا الاندفاع العشوائى غير المنظم والتصعيدات المتبادلة تزيد الأجواء سخونة، والمجتمع إحباطاً، والثورة انحرافاً عن مسارها. ويضاف إلى ذلك نزعة المصريين إلى التمرد على كل الأوضاع، بما يذكرنى بما كتبه إدموند بيرك، الفيلسوف الفرنسى الذى كتب ناقداً الثورة الفرنسية لما أحدثته من مذابح: «إن جرثومة التمرد إذا أصابت شعباً، فإنها تصبح مسألة جيلية (أى تحتاج انقضاء جيل حتى تهدأ).. التمرد ضد الظلم عدل، ولكن التمرد ضد كل وأى قرار أو قانون أو مؤسسة بلا ضوابط قمة الظلم. ما الذى تفعله المجتمعات الأخرى كى تحل مثل هذه المشكلة؟ هناك سيناريوهان كبيران: سيناريو مصرى تاريخى يُرمز له ب«محمد على»، وسيناريو غير مصرى، وربما غير مسبوق فى تاريخنا، ويُرمز له ب«نيلسون مانديلا». محمد على حين وصل إلى السلطة وجد قيادات المماليك، كما يقول مصطفى صادق الرافعى، وقد استوى عندهم حب الوطن وحب الذات، وارتفعت عندهم الغيرة على المنصب أكثر من الغيرة على الوطن، فقرر أن يحيلهم إلى المعاش المبكر فكانت مذبحة القلعة الدموية. ولو تذكرنا فهذا كان منطق كل حاكم لمصر فى تاريخها مع استثناءات قليلة. أما نيلسون مانديلا فكان مختلفاً فى توجهه، غالباً لأنه لم ير أمامه مماليك، واعتبر أن الوضع الأمثل هو بناء المؤسسات: البرلمان، الدستور، الرئيس، اللامركزية، مؤسسات العدالة الانتقالية، ومؤسسات العدالة الاجتماعية. وهذه المؤسسات تضبط وترشد السلوك السياسى للفاعلين. قطعاً أنا لا أطالب بمذبحة قلعة، ولكن إن لم نكن ك«نيلسون مانديلا» باختيارنا، سنجد بيننا من يتمثل محمد على بغير اختيارنا، وغالباً سنبدع نموذجاً جديداً تحت عنوان: محمد نيلسون على مانديلا.