البحث عن «دور» فى منطقة معقدة ومشتعلة بالاضطرابات مثل الشرق الأوسط، لا يمكن أن يكون مهمة سهلة، ولا يمكن أن يمر، فى حالة فشله، مرور الكرام. أى دولة تضع رأسها بين فكى الأسد المسمى «بالشرق الأوسط» لا بد أن تضع فى حسبانها احتمال انغلاق فكيه عليها فى أى لحظة، مع أى تحرك غير محسوب، أو أى خطوة لا تصل بها إلى الإجابة الصحيحة. لكن، ما الإجابة الصحيحة وسط كل الفوضى التى تجتاح الشرق الأوسط؟ ما الإجابة الصحيحة مع تعقد الأسئلة المطروحة على المنطقة كلها بعد تضاعف الفوضى إثر اضطرابات الربيع العربى؟ هل صارت هناك دولة ما فى المنطقة، منيعة أمام تلك الفوضى؟ هل يمكن أن تصل تلك الفوضى لتضرب أصحابها فى عقر دارهم؟ هل يمكن أن تمتد الفوضى إلى قلب قطر؟ فى الكتاب البريطانى الذى حمل عنوان «قطر والربيع العربى»، حاول المؤلف والباحث «كريستيان كوتس أورليخسن»، الخبير فى شئون الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجى، أن يطرح سؤالاً مهماً: ما مدى تماسك قطر من الداخل؟ هل هذه الدولة التى أصرت على إقحام نفسها فى شئون الدول من حولها، تملك ما يكفى من الاستقرار الداخلى قبل أن تفكر فى هز استقرار الدول الأخرى؟ هل تثق قياداتها فى شعبها؟ وهى يدعم شعبها قياداتها؟ هل تملك قيادات قطر ما يكفى من التأييد الداخلى لسياساتها الخارجية؟ أم أن تدخل قطر الزائد فى شئون دول الربيع العربى، وما أدى إليه هذا التدخل من كراهية شعوب تلك الدول لها، يمكن أن يتحول فى لحظة ما، إلى موجة من السخط الشعبى الداخلى فيها؟ لا تبدأ الفوضى عادة صريحة، ولكنها تبدأ بالتراكم. شرارة صغيرة تشعل حريقاً صغيراً، يتم إخماده عادة سريعاً، لكنه يترك أثراً، يتضاعف مع كل شرارة مماثلة، حتى تجد أى سلطة نفسها فجأة فى مواجهة حرائق تلتهم كل شىء. والسؤال هو: هل بدأت هذه الشرارات بالفعل، تظهر فى قلب قطر منذ أواخر عهد الأمير السابق حمد بن خليفة، لتلتهم كل شىء فى عهد الأمير الجديد «تميم»؟ يقول الكتاب البريطانى: «إنه مع كل ذلك الجهد الذى قام به قادة قطر للتدخل فى شئون الدول الأخرى، وعلى رأسها دول الربيع العربى، ومع كل حديث قيادات قطر عن ضرورة تغيير الأنظمة «السلطوية» فى شمال أفريقيا وسوريا، كان من الطبيعى أن تتجه أنظار العالم، بقياداته وشعوبه، إلى قلب قطر، ليصبح الاهتمام العالمى بشئون قطر الداخلية، أكبر حتى من تدخلها فى شئون الدول الأخرى». ويضيف: «كان ذلك يحمل تحدياً مزدوجاً ومضاعفاً بالنسبة لقيادات الدوحة، فمن ناحية، كان الضغط القطرى على الأنظمة التى قامت ضدها اضطرابات الربيع العربى، ودعم الدوحة المطلق للثورات التى أطاحت بتلك الأنظمة، يقف فى تناقض صارخ مع ضعف التعددية السياسية والحريات فى قطر نفسها بشكل أكبر مما يمكن تجاهله. ومن ناحية أخرى، بدا أن ما قامت به قطر من اتباع سياسة «جمع الأعداء»، ومراكمتهم ضدها بسبب سياسات قادتها القائمة على التدخل فى شئون الدول الأخرى من حولها، قد تحول إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة التى يمكن أن تنفجر بعنف ضد الدوحة، لتنقلب تحركات قطر عليها، لو ظهرت أى بوادر لعدم الاستقرار الداخلى فيها». ويتابع الكتاب: «ولا يمكن إنكار أن دعم الحكومة القطرية الذى أصبح مكشوفاً، لتغطية قناة «الجزيرة» لاضطرابات الربيع العربى وما بعدها، قد قضى تماماً على أى رصيد للثقة فى النوايا الحسنة لقطر، وليس من الصعب الآن تخيل ردة فعل الدول التى كانت تتلقى انتقادات وهجوم الجزيرة القطرية، لو ظهرت مشاكل فى الداخل القطرى، أو عندما يظهر أحد المدافعين عن الحقوق والحريات فى قطر، رافعاً صوته معبراً عن رأيه، ثم يتعرض للقمع، كما حدث مثلاً فى صيف 2012، عندما قام على خليفة الكوارى، أحد الأكاديميين والكتاب والمفكرين البارزين فى قطر، بنشر عريضة أطلق عليها: «الشعب يريد الإصلاح فى قطر أيضاً»، وتم طبع الكتاب فى بيروت، حاملاً إسهامات 11 أكاديمياً وكاتباً قطرياً طالبوا برفع صوت موحد ينادى بالإصلاح فى قلب قطر نفسها، بعد أن وجدوا أن القنوات الرسمية التى يمكنهم بها إيصال أصواتهم للحكومة القطرية، هى فى حقيقتها بلا معنى ولا جدوى». ويواصل: «كانت وثيقة «الكوارى» تطالب بمزيد من الشفافية فى الأداء الحكومى القطرى، وبمزيد من مشاركة الشعب، والديمقراطية فى قطر، وبتعديل مواد بعينها فى الدستور، كما طالبت بسيادة القانون، والاستفادة من الموارد التى يتم تحصيلها من صادرات الغاز الطبيعى، إضافة إلى انتقادات موجهة لسياسة التنمية الداخلية القطرية، كان نشر هذه العريضة سبباً فى إثارة الاهتمام العالمى، نظراً لأنها هدمت الفرضية التى كان يتمسك بها كثير من المحللين، والقائلة إن قطر بعيدة إلى حد ما عن المطالب بالإصلاح والتغيير، أصبح «الكوارى»، بثقله المعروف فى دوائر المفكرين الخليجيين، مرجعاً بالنسبة للهيئات ووسائل الإعلام الدولية التى كانت تتوق لإلقاء نظرة على قطر من الداخل، وفى إحدى ندواته، قال «الكوارى» صراحة: «لا يوجد أمل فى أى إصلاح داخلى فى قطر، طالما ظل حال الحريات العامة فيها على ما هو عليه، طالما ظلت الشفافية غائبة، وظلت الأمور المالية العامة والشخصية متداخلة بذلك الشكل، وأضاف فى حوار آخر له مع مجلة ألمانية: «إن قطر جزء من الأمة العربية، وأياً كان ما يحدث فى المنطقة، فسيجد صداه إن آجلاً أم عاجلاً فى قطر، لقد كانت الحركات التى تطالب بالديمقراطية فى مصر وتونس، وحتى فى اليمن، صيحة حشد لتحريكنا نحن أيضاً».. ويتابع «الكوارى» أن «هناك أربعة عوائق تقف حالياً فى وجه أى إصلاح فى قطر، أولها، هو إخفاء ومنع نشر أى معلومات ذات صلة بالشأن العام، وغياب الشفافية، وغياب حرية الرأى والتعبير، وغياب تعريف واضح ومفهوم للحدود التى ينبغى أن تكون موجودة للفصل بين المصالح العامة والشخصية، وكيفية التعامل مع انعدام الكفاءة فى قطاع الإدارة العامة، إن الإصلاح يتطلب أن يتوصل الشعب والحكومة القطرية معاً لاتفاق حول الأجندة والخطوات التى يمكن اتخاذها مستقبلاً، وهذا يعنى ضرورة فتح حوار حول كيفية ومسار الإصلاح». ويواصل: «أما العوائق الأخرى التى تقف فى وجه إصلاح قطر من وجهة نظر «الكوارى»، فتكمن فى تركيز عوائد النفط الواسعة فى يد حاكم قطر وحده، ليقوم بتوزيعها بالشكل الذى يراه مناسباً، ويستخدمها عادة لكى يشترى بها ولاء الآخرين سواء فى الداخل أو خارج الحدود، والثانى هو استمرار الحماية الخارجية للحاكم القطرى طالما ظلت القوى الخارجية راضية عن تحركه فى صالحهم، أما الثالث فهو انخفاض نسبة المواطنين القطريين أنفسهم كنتيجة للدعم الذى يتم منحه للعمال الأجانب، الذين لا يشاركون المواطنين اهتماماتهم ولا مصالحهم، ولا يشعرون أن لديهم أى حقوق سياسية ولا اجتماعية لدى الحاكم السلطوى، تاركين الحاكم فى قطر يحكم دولة صار أغلب شعبها دون أى حقوق سياسية، ويمكن ترحيله وقتما يشاء». لم يتردد «الكوارى» أيضاً فى التعبير عن غضب المثقفين القطريين من قناة «الجزيرة» التى تدعى أنها «صوت لمن لا صوت لهم» باستثناء القطريين الذين يريدون التعبير عن آرائهم فيما يحدث فى بلادهم نفسها، وهو ما جعل قطر، على الرغم من صراخ «الجزيرة»، تحتل المرتبة رقم 110 فى الحريات، ضمن 179 دولة تشملها تقارير الحريات التى تصدرها منظمة «مراسلون بلا حدود».