ورود زاهية بكل ألوان الفرح تصطف فى جنبات القاعة الأنيقة.أنواع مختلفة من الشيكولاتة المبالغ فى ثمنها وطرق تعبئتها تشى بهويتها وقدر من العملات شديدة الصعوبة أنفقت عليها فى بلد العجائب، حيث نصفه جائع وجاهل يفتش فى صناديق قمامة الوطن. زغاريد تعربد فى الهواء من حناجر عفية استُحدثت عليها صيحات مرحة لكنها أشبه بالصراخ، فهذه هى الطريقة الحديثة فى التعبير عن الفرح (أصل العروسة وأصحابها عقبال الحبايب من خريجى الجامعة الأمريكية) لتنظر سيدات العائلة المتحفظات أو (الدَقة القديمة) لهؤلاء الفتيات بدهشة ملقيات عليهن ابتسامات (عواجيز الفرح). تستطيع اصطياد همسات هنا وهناك عن قيمة الشَّبكة ورحلة شهر العسل بجزر المالديف. تلمح أحلام البنات بيوم مماثل فى القاعة نفسها، ومنافسات غير معلنة بألوان الفرح فى أزياء. يفتقد الكثير منها لمساحات الستر المناسبة للمكان. تعقد مقارنات عديدة من فارغى العقول بين (عريس فلانة وعروسة علان)، لترتسم الابتسامات بين جودة الصنعة وصدق المشاعر. يقرئ المأذون العروسين والحضور ما يذكر فى تلك المناسبة السعيدة وقد تخلى عن الشكل التراثى المرتبط بالأذهان وأصبح (شيخ مودرن)، لتنتهى المراسم الجميلة وسط الضحكات والتقاط الصور والمقاطع المرحة لمحاولات مستميتة (لقَرص ركبة العروسة من بنات اليومين دول اللى تندَب فى عينهم رصاصة) ثم يبدأ الجميع فى الرحيل مع خطط واعدة لاستكمال طقوس الاحتفال فى مكان معد مسبقاً، وتخفت الأصوات داخل القاعة شيئاً فشيئاً، ويدخل العاملون بها فى صمت لتبدأ عملية إزالة آثار العدوان الجميل بخطوات منظمة وأدوات مجهزة لعمل دؤوب اعتادوا عليه بشكل ميكانيكى ينم عن انتمائهم العسكرى، وتخفت الإضاءات تدريجياً، وتنسحب باقات الزهور بعد أن أنهت مهمتها. وكعادتى التى «لن أشتريها» نسيت «شال» كنت أحيط به كتفىّ اتقاء لأجهزة التكييف المبالغ فى برودتها، فالتفت عائدة إلى القاعة الصاخبة منذ قليل لالتقاطه وسط ضحكات المقربين وقفشاتهم التى لا أنجو منها أبداً. أدخل القاعة مهرولة، مع رحيل العاملين سريعاً وكأنهم جيوش من الآليين فى أفلام الخيال العلمى، لأتوقف وقد انتابتنى رجفة مفاجئة. حالة لا أعرف كيف أصفها، فقد اختفت كل مظاهر الفرح: الورود، الإضاءات، الصخب. وبدت القاعة حزينة حزينة، لا أعرف كيف شعرت وكأنها تبكى، أسمع أنيناً للمكان. وجوم اجتاحنى، ملك علىّ مشاعرى، وأثار شجوناً لا أعرف لها تفسيراً، سلمنى لمساحات من التأمل تلقينى بلا تفكير إلى رحاب فلسفة طالما لاحقتنى. أحاول الانسحاب من القاعة، ومن ذلك الإحساس الطاغى، فأخفق. التفت باحثة عن شىء لا أعرفه. يلح على وجدانى بيت شعر قديم: «وإذا تأملت البقاع وجدتها.. تشقى كما تشقى الرجال وتسعد». وتأتينى الإجابة أخيراً، وشت لى بها تلك اللوحة وضعت أمام باب القاعة فى جلال صورة تحمل وسامة وحماس وإقبال الشباب، وقد طوقتها الآية الكريمة: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً» إذن، ذلك هو السر. أدركت ما ألمّ بى وبالمكان فى لحظة تواصل نادرة مع الوجود، إنها طاقة حزن خفية مرسلة عبر الكون، صامتة أعلنت عن نفسها فى لحظات، بلغتنى الرسالة. أطرقت قليلاً احتراماً لآلام الحياة. أسكتُّ محمولى اللحوح. أفسحت الطريق لحزن يجرجر خطوات رجال، يحملون جبال هم تلجمها ثقافة الشرقيين، حيث الدموع من نصيب (الحريم) فى قسمة غير عادلة. أطرقت فى صمت من ألم يعتصر قلوب نساء يستندن على جدران الصبر والدموع، اعتذرت منهن فى خجل. هممت بطريقى للعودة إلى الحياة، لتنادينى تلك الصورة مرة أخرى. رأيت عينين ما زالتا واثبتين للحياة بعد. رأيت أحلاماً لم تتحقق بعد، ضحكات لم تطلق بعد، حماقات لم ترتكب بعد، حكايات لم تكتمل بعد، حبيبة لم تعرف بعد، ليالٍ من الفرح والحزن والحكمة لم تقترف بعد. انسحبت فى صمت، وقد غمرتنى فلسفة الوجود، وسمحت لى فى لحظة عبقرية أن أرى وألمس جزءاً من الحقيقة. يتلقفنى الرفاق. لا أستطيع مشاركتهم صخبهم. أحتفظ بما نلته من لحظات الحقيقة. يندهشون. لا أعبأ بالتفسير، وفى صمت أمضى. إنها الحياة.