كانت الساعة فى حدود الرابعة عصراً بتوقيت أديس أبابا حين خرج الرئيس عبدالفتاح السيسى من إحدى قاعات الاجتماعات بمقر منظمة الاتحاد الأفريقى التقى فيها مع عدد من قادة الدول الأفريقية، وبعض رموز دولية مثل ملك إسبانيا، وقبل أن يتجه إلى المصعد تمهيداً للتحرك نحو مطار أديس أبابا. وقف الرئيس دقائق معدودة أمام الوفد الإعلامى المصرى الذى كان ينتظر بفارغ الصبر أن يستمع إلى تقييمه للحادث الإرهابى الذى وقع مساء الخميس الماضى فى سيناء مستهدفاً منشآت عسكرية ومدنية معاً. كانت الكلمة موجزة مفعمة بالمشاعر الوطنية التى مزجت بين الشعور العميق بالحزن وبين الإصرار على مواصلة المواجهة مع الجماعات الإرهابية وتنظيمهم الأخطر سرية وعنفاً وخسة. وصف الرئيس ما يحدث بأنه كان متوقعاً، وأنه يمثل حرب استنزاف كتلك التى واجهتها مصر فى أعقاب نكسة 1967، داعياً الإعلاميين إلى أن يضعوا فى اعتبارهم رفع الروح المعنوية للشعب، والتحدث بحكمة حول القضايا التى تمس الجيش. مطالبة الرئيس للإعلاميين بأن يتعاملوا مع القضايا المتعلقة بالأمن القومى بقدر أكبر من الحذر ليست جديدة، ولكنها تكتسب أهمية أكبر فى هذه اللحظة المصيرية التى تمر بها مصر. ففى كل الحروب هناك دور للإعلام يقوم به لتوعية الشعب بطبيعة تلك الحرب والالتفاف حول قيادته، وعدم الوقوع فى براثن الدعاية المضادة التى تستهدف تفكيك الجبهة الداخلية وإضعافها تمهيداً للانقضاض على البؤرة الصلبة التى تقوم بالمواجهة المباشرة، أى الجيش والأجهزة الأمنية المساعدة. وقد شعرت من كلمة الرئيس بأنه يطالب الإعلاميين بأن يدركوا أولاً أن حرب الاستنزاف هذه مليئة بالمفاجآت وبالخسائر، وأن علينا أن نتعامل مع الأحداث الكبرى، كالتى وقعت فى سيناء، بقدر من الذكاء يحول دون أن يحقق العدو أهدافه التى يمكن تلخيصها بألا يشعر أى مصرى بأن البلاد تسير على الطريق الصحيح. وبالتالى فإن الأبعاد النفسية الجماعية للشعب هى عنصر أصيل فى الحرب وبُعد مهم فى المواجهة. كنت قبل ستة أشهر تقريباً، وتحديداً فى الثانى من يوليو 2014، وفى هذه الصفحة، نشرت مقالاً بعنوان «حرب استنزاف نموذج 2014»، وفى هذا المقال أوردت تعريفاً لحروب الاستنزاف وأنها «تحدث فى وقت اشتعال المعارك الكبرى كما تحدث فى وقت التمهيد لمعركة كبرى، وفى كل الأحوال فمساحة حروب الاستنزاف تشمل الوطن كله، وهى بذلك أكبر بكثير من ساحة المعارك العسكرية التى قد تدور فى جزء من الحدود أو على جزء من الأرض. وبهذا المعنى العام أتصور أننا فى مصر نعيش حرب استنزاف ولكن من نوع جديد، يستهدف أولاً ضرب الاقتصاد وثانياً إثارة مشاعر عدم الرضا، وثالثاً نشر الفوضى، ورابعاً الانقضاض على الوطن بعد تخريبه وتدمير قدراته الذاتية. وأخطر ما فى هذه الحرب أن العدو فيها هو من أبناء الوطن مدعوم من قوى خارجية، وأن الوعى العام بخطورتها هو فى أقل درجاته». مثل هذا التعريف الذى ما زال صالحاً وأكدته الأحداث الماضية يعنى أن هزيمة العدو فى الداخل وفى الخارج تتطلب خطوات وسياسات أكثر صرامة من تلك التى طُبقت فى الفترة الماضية. ومع الاعتراف بأن هناك نجاحات ملموسة فى مجال مواجهة الجماعة الإرهابية الأم وفروعها أياً كان الاسم والشعار، فإن طبيعة المعركة والتصعيد الإرهابى للإخوان يستدعيان تطبيق استراتيجية من نوع جديد تأخذ فى اعتبارها أن العدو هو من الداخل بالأساس، وأنه منتشر فى مرافق الدولة المختلفة، وأنه يحصل على تمويل سخى من أكثر من طرف، وأن نزعته العدوانية ليس لديها سقف محدد، وأن سلوكه الانتقامى يصل إلى حد تفجير وتخريب كافة المؤسسات وإعادة البلاد إلى القرون الوسطى دون أن يطرف له جفن. ناهيك عن وجود أطراف سياسية لا تعتبر نفسها جزءاً من المواجهة، ولكن مواقفها الحقيقية تصب فى صالح هذا العدو. وبناء على هذا التداخل الشائك تبدو الحاجة ملحة إلى بناء استراتيجية قوامها السحق الكامل للعدو، ولعل نقطة البداية الأصلح فى الاستراتيجية المطلوبة هى فى عزل أولاً، ثم تفتيت ثانياً، ثم سحل ثالثاً، كل الخلايا الإرهابية، والعزل هنا يُعنى بمحاصرة كل من يدافع عن مطالب العدو أو يشكك فى قدرة مصر وجيشها وشرطتها على تحقيق الانتصار المطلوب، أو يدعو لعمل إرهابى ضد جيش أو شرطة أو مؤسسات أو أفراد عاديين. أما التفتيت فيُعنى بتوجيه ضربات متتالية لكل من يثبت تورطه فى عمل إرهابى أو التحضير له أو المعاونة مالياً أو مادياً على تخريب منشأة مدنية أو عسكرية بأى قدر كان. أما السحل فهو العقاب السريع والناجز الذى يرسل رسائل واضحة ولا لبس فيها بأن مؤسسات الدولة جميعها متضامنة فى مسئولية دحر الإرهاب والحفاظ على الدولة المصرية وحمايتها من السقوط. ولعل سرعة إجراءات التقاضى والفصل الناجز فى القضايا المتعلقة بالتخريب وتورط البعض فى أعمال إرهابية يشكل عنصر ردع معنوى وقانونى لكل من تسول له نفسه ممارسة أى عمل خارج عن القانون يستهدف الدولة أو أى أحد من رموزها. وحتى تكتمل عناصر النجاح لمثل هذه الاستراتيجية المتعلقة بالحسم فى مواجهة الإرهاب، هناك بعدان رئيسيان، الأول يتعلق بتجفيف التمويل للجماعات الإرهابية، وهى مهمة يتضافر فى إنجازها كل من وزارة العدل والبنك المركزى معاً. والبعد الثانى يتعلق بتحصين المجتمع أو أى من أفراده من الوقوع فى براثن الاحتراب الأهلى تحت ذريعة القصاص من الإرهابيين، وهنا يكون الإعلام بمثابة أداة المواجهة الرئيسية بحيث لا يضفى أى تأييد معنوى أو سياسى على أى طرف كان يريد أن يشيع فكرة الانتقام الأهلى كبديل عن مسئولية الدولة ومؤسساتها الرسمية فى المواجهة وفى الثأر وفى القصاص. إن طبيعة حروب الاستنزاف واتساع ساحتها لتشمل الوطن كله، وإن فرضت مسئوليات معينة على كل مؤسسة أو قطاع أو فئة من الشعب، يظل أمرها فى النهاية متعلقاً بالدولة والمؤسسات، والخطر الكبير أن يتصور البعض أن تشجيع الانتقام الفردى بعيداً عن القواعد القانونية هو المسار السليم فى المواجهة والطريق الأقصر لاحتواء غضب المصريين. وإن حدث ذلك سنكون أمام أقصر طريق يحقق النصر للعدو. فليحذر الجميع.