الحروب لا تنتهى سريعاً، والمفاجآت واردة، وإعلان الانتصار يتطلب اعترافاً من الطرف المهزوم بالهزيمة وقبوله دفع الثمن والتكيف مع النتائج. وحين تستمر المعارك الصغيرة والمناوشات وعمليات الاستنزاف بأشكالها المختلفة، إذن فالحرب ما زالت مستمرة، قد تأخذ أشكالاً أقل حدة، ولكنها تظل موجودة، وهنا تأخذ اسمها الجديد؛ حرب الاستنزاف. تاريخياً عرفت مصر حرب الاستنزاف بعد نكسة 5 يونيو 1967، واستمرت لعدة سنوات، تداخلت فيها الهجمات الجوية الإسرائيلية على الأهداف المصرية المدنية والعسكرية على السواء، والعمليات النوعية التى قامت بها القوات المسلحة المصرية ومجموعات متطوعة من المصريين بالتنسيق مع الجيش المصرى لتوجيه ضربات قوية خلف خطوط العدو الإسرائيلى فى عمق سيناء. كان الهدف العام يتلخص فى إشعار الإسرائيليين بأن مصر لن تقبل الهزيمة بأى حال من الأحوال، وأن وجودهم فى سيناء سيكون له ثمن كبير. كانت الرسالة مزيجاً من الفعل المعنوى والرمزى والفعل المادى، وكلاهما كان يلخص قراراً مصرياً بأن احتلال سيناء ليس سوى أمر عابر. حروب الاستنزاف تحدث فى وقت اشتعال المعارك الكبرى كما تحدث فى وقت التمهيد لمعركة كبرى، وفى كل الأحوال فمساحة حروب الاستنزاف تشمل الوطن كله، وهى بذلك أكبر بكثير من ساحة المعارك العسكرية التى قد تدور فى جزء من الحدود أو على جزء من الأرض. وبهذا المعنى العام أتصور أننا فى مصر نعيش حرب استنزاف ولكن من نوع جديد، تستهدف أولاً ضرب الاقتصاد، وثانياً إثارة مشاعر عدم الرضا، وثالثاً نشر الفوضى، ورابعاً الانقضاض على الوطن بعد تخريبه وتدمير قدراته الذاتية. وأخطر ما فى هذه الحرب أن العدو فيها هو من أبناء الوطن مدعوم من قوى خارجية، وأن الوعى العام بخطورتها هو فى أقل درجاته. لقد اعتادت الجماعة الإرهابية وحلفاؤها الجهر بإعلان أفعال قيد التنفيذ فى مناسبات مختلفة، وفى كثير من الأحوال تحدث مثل تلك التهديدات ولو بأشكال رمزية من قبيل المسيرات التى لا يتجاوز عددها عدة عشرات، ولا تستمر أكثر من دقائق معدودة، وتنتهى بعد التقاط الصور ولقطات الفيديو لأغراض دعائية بحتة، وفى أحيان أخرى، تحدث أفعال نوعية يقوم بها المحترفون من الإرهابيين والمدربون على الرصد والتنفيذ والهرب. ورغم كل الضربات الاستباقية التى نجحت فيها المؤسسات الأمنية وأحبطت فيها عمليات نوعية كبرى وكشفت خلالها المزيد من المجموعات الإرهابية والخلايا النائمة - فإننا نشهد بين الحين والآخر نجاحاً فى عملية نوعية ذات دلالة؛ فمنذ شهرين تقريباً كان هناك تفجير لخطوط نقل الكهرباء من محطة الكريمات، وقبل يومين نجح الإرهابيون فى تفجير مبنى سنترال أكتوبر تحت الإنشاء بعد أن تمكنوا من تخزين مواد شديدة الانفجار فى حدود 200كج، ومن قبل تم تفجير عدة عبوات بُدائية فى ثلاث محطات للمترو. والجامع بين هذه الوقائع أنها تستهدف منشآت حيوية تمس حياة المصريين دون تمييز، وينتج عنها خسائر فى الأرواح البريئة، فضلاً عن عدة ملايين من الجنيهات، وحتى فى حالة الإصلاح فالأمر يتطلب وقتاً يساوى أموالاً طائلة، فضلاً عن التكلفة الفعلية لإعادة التشغيل، وحالتان منهما كانتا عبارة عن منشآت فى أماكن بعيدة نسبياً عن العمران، ناهيك عن تكرار قتل عدد من الجنود فى أحد أيام رمضان فى كمين وهمى فى رفح وهم فى طريقهم لتمضية بضعة أيام مع أسرهم، فى مشهد حدث من قبل بكل تفاصيله. وبالرغم من أننا نرى ونشهد بأن الأجهزة الأمنية تقوم بجهد جبار لمنع مثل تلك العمليات الإرهابية النوعية، وكذلك تفعل الكثير لكشف الخلايا المسئولة عن تلك الأعمال الخسيسة بعد وقوعها، فإننا نلاحظ حالة من اللامبالاة فى إعداد المجتمع والمؤسسات العامة للتعامل الوقائى مع حالة حرب الاستنزاف التى تمارسها الجماعة الإرهابية وحلفاؤها؛ ففى حالة التفجير الإرهابى الذى استهدف محطة الكريمات والآخر الذى استهدف مبنى سنترال السادس من أكتوبر تتجلى حالة من اللامبالاة فى تأمين المنشأتين، والدرس الواضح هنا أننا أمام عدو خبيث وخسيس ولا تردعه أية قيم دينية أو إنسانية، ويقوم برصد مناطق الضعف الأمنى فى المنشآت الحيوية بغرض تدميرها أو تخريبها، والمقابل الموضوعى لذلك يتمثل ببساطة متناهية فى ضرورة التعامل الأمنى مع مثل هذه المنشآت الحيوية بشكل أكثر احترافاً وأكثر مهنية وأكثر إدراكاً لطبيعة الحرب التى تعيشها مصر الآن. وحتى اللحظة، لا أستطيع استيعاب ما ورد فى التحريات الأولية بشأن تفجير سنترال 6 أكتوبر؛ من أن الإرهابيين كانوا يدخلون بكل بساطة إلى داخل المنشأة وتمكنوا من تخزين هذا الكم الكبير من المواد شديدة الانفجار، وأعادوا توزيعها فى أماكن مفصلية فى المبنى حتى يقضوا عليه تماماً بعد تفجيره، كل ذلك ولم يستطع أمن المنشأة أن يلاحظ أى شئ غريب، ولم يسأل أياً من هؤلاء الغرباء: ماذا تصنعون؟ وبالقطع فإن اللوم هنا يقع على أصحاب هذه المنشآت الحيوية والقائمين على إدارتها، إذ قد يبخلون على إعداد كادر أمنى مؤهل وواعٍ بخطورة اللحظة، ويتصورون أنهم بذلك يوفرون بضع مئات من الجنيهات، ولكنهم فى النهاية يدفعون الملايين ويدفع معهم الشعب المصرى خسارة أخرى فى الأرواح وسوء الخدمة. والأنكى من كل ذلك هو نجاح الإرهابيين فى وضع المزيد من الضغوط على المصريين اقتصادياً ومعنوياً. إن نجاح المصريين فى كسر شوكة حكم الإخوان الإرهابى الإقصائى لن يكتمل ما دام هناك من يتعامل مع واجباته ومسئولياته بقدر من الإهمال وسوء التقدير، وإن لم ينجح المصريون، حكومة وشعباً، فى العبور من حرب الاستنزاف الراهنة فإن اكتمال مهمة إنقاذ الوطن قد لا ترى النجاح المأمول. والمسألة هنا لا علاقة لها بالتفاؤل أو التشاؤم، بقدر ما لها علاقة مباشرة بالوعى العام وحسن التقدير واتخاذ الخطوات والإجراءات التى تناسب الموقف الرهيب الذى يعده المرجفون والإرهابيون لمصر وشعبها، ونرى له نماذج مرعبة فى بلدان مجاورة وأخرى بعيدة نسبياً من حيث الجغرافيا، ولكنها تطعن فى القلب مما يحدث فيها. ويا سادة، نحن فى حرب، أفيقوا يرحمكم الله!