قارئى العزيز.. كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تعييه الحيل ويخذله قانون البشر، فتشت فى أوراقى كثيراً بحثاً عن قليل من العدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم.. فقضايا محكمة التاريخ لا تسقط بالتقادم، يمنح فيها المدعون بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته.. وهذا خامس المدعين من طابور طويل.. - لتتفضل.. المحكمة تعطيك الحق فى مخاطبة المتهم بنفسك.. ولتبدأ الجلسة.. محكمة.. - عفواً يا بنى.. لن أناديك بسيدى الرئيس كما يفعل الجميع.. فللعلم سلطان يفوق سلطانك فأنا أستاذك فى مدرسة المساعى الحميدة الثانوية ببلدتك الصغيرة.. هل تذكر كفر مصيلحة وأيامها.. هل تذكرنى أم تتنكر لى كما تنكرت للجميع.. سعدت بحرصك على عدم تمييزك لعائلتك وعلاقاتك الشخصية ولكنك كونت عائلة أخرى يبدو أنك كنت تتمناها وكان استغلال علاقاتهم بك أكثر شراسة.. حيث وحدة التعامل لا تنتمى لعاطفة بشرية ولكن لحسابات بنكية وأعراق أرستقراطية وعلاقات أكثر شخصية. عفواً يا بنى.. أعتذر لك ولأمة بأكملها.. علىّ مسئولية قدرية أشعر بها، عن مساواتى لك مع كل أبنائى الطلبة فى صفك، أيامَ كان للمعلم دوره الكبير فى تكوين عقول وضمائر واثبة للحياة.. فليتنى أعطيتك المزيد من الاهتمام عنهم.. ليتنى حدثتك أكثر عن قيم العدل، الحق، الجمال.. ليتنى أدركت أن فى صلاح طالب هادئ لا يشارك فى أى نشاط طلابى ولا سياسى ولا حتى رياضى كان يمكن أن يكمن صلاح أُُمة.. تابعت فى عصرك الردة الثقافية، رحيل الأقلام، توقف سلاسل المعرفة، وتحول دور النشر إلى بلاد أخرى، انحدار دور مصر الريادى.. لأدرك السر الذى قد لا يدركه الكثيرون.. فأتذكر عدم اهتمامك بالاطلاع وعزوفك عن الثقافة.. ليتنى أجبرتك على القراءة واكتشاف آفاق جديدة لا من أجلك ولكن من أجل أجيال افتقدت النموذج والقدوة.. لمحت فى عيون كل شاب من رعيتك استمرار عدم اهتمامك بهويتك الدينية وعدم ممارستك لشعائرها الحقيقية واكتفائك بطقوس سطحية (للشو) الإعلامى.. ونحن شعب متدين بطبعه يا بنى.. نحتاج لمثل أعلى.. فالناس على دين ملوكهم.. وهكذا أصبح جزء من الوجدان الوطنى فى احتياج عاطفى قبل أن يكون عقائدياً.. وأصبحت الساحة شاغرة للمدعين والمكفرين.. المنادين بنجاة الأمة من الزنادقة الكفرة. ولعدم فهمك الحقيقى لتعاليم ديننا السمح أصدرت قرارات انحيازية فى ظاهرها ولكنها ضد الإسلام الحقيقى فى باطنها فمنع إنشاء الكنائس فى عصرك أو حتى ترميمها إلا بقرار جمهورى هو الاستيعاب الأكثر حماقة لتنافس أحمق لإنشاء دور العبادة بمنطق العصبية القبلية (فريّحت دماغك) بدلاً من اجتثاث جذور الفتنة فى مهدها بفكر واعٍ، ووضعت قواعد غير معلنة تقلل فرص الكفاءات من إخوتنا المسيحيين لتقلد المناصب العليا عن استحقاق فى شعيرة لم ينادِ بها الدين الذى أعلى قيمة العلم والعلماء وأوصى بحق أهل الذمة، والأهم (إن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).. بين الناس وليس بين المسلمين. يا ليتك أدركت، ففتحت الباب لتغيير نمط سلوكى لشعب اعتاد تقبل كل الثقافات.. وبطرس باشا غالى رئيس وزراء مصر المسيحى كان أكبر دليل على ذلك.. والنتيجة افتقاد الوطن كثيراً من أبنائه العلماء وهجرتهم حيث فرص أكثر عدلاً وتحقيقاً لروح الإسلام. - عفواً يا بنى.. لم يخطر ببالى ولا ببال أحد أن تكون فى موقعك هذا يوماً.. والذى لا أعرف أهو نعمة عليك أم نقمة لأن دائماً يا ولدى العبرة بالخواتيم.. وكلنا مفارقون ولا يبقى إلا عملنا وكلمة نذكر بها. أما على بلدنا فمن المؤكد أنها كانت نقمة كبيرة؛ فأين أنت من مهاتير محمد ورفاقه الذين تفوقوا عليك فى مدرسة الحياة.. أين أنت من دروس أفنيت حياتى أعلمها لك ولباقى رفاقك؟.. وها أنا وقد أكلنى المرض لا أملك ثمن الدواء.. فغير كافٍ رصيدى من عمر أفنيته بدون اللجوء لذلك الطاعون الذى انتشر فى عصرك من دروس خصوصية كنت أقدمها بلا مقابل حباً فى العلم وإعلاء لرسالة أرث بها الأنبياء.. حزين أرحل دون اللجوء إليك كما يطالبنى الكثيرون.. أعرف مدى تنكرك لماضيك وكل ما يذكرك به وإهانتك ورفضك مواجهة رموزه كبيرهم وصغيرهم.. لذا أفضل الرحيل فى هدوء حاملاً معى هيبة العلم الذى أهنته كثيراً بحال المعلم فى زمانك. ويطرق الأحباب باب أستاذهم فى طقس وفاء ندر.. ليجدوه قد فارق الحياة فى هدوء.. وقد تناثرت جريدة اليوم.. ملقاة على الأرض تدوسها الأقدام الحزينة سُطر فيها وبالخط العريض (علاج زوجة وزير الصحة الذى يمتلك أكبر مستشفى فى مصر على نفقة الدولة بمليون دولار).. يقف التاريخ عن الكتابة حزيناً.. وتُرفع الجلسة حداداً.. وللمحاكمة بقية.. محكمة.