فى إحدى مراحل حياتى الوظيفية أصبتُ بالإحباط، حيث كان مديرى متخصصاً فى سد كل أبواب الفرص والنمو فى وجوه موظفيه. وجلستُ مرة أشكو لزميل يكبرنى فى السن وله تجربة طويلة فى العمل، فسألنى عن طقوس استيقاظى من النوم فى الصباح! استغربتُ من سؤاله فقال لى إن لحظة استيقاظ الإنسان وقيامه من فراشه هى لحظة مصيرية، فإذا فتحتَ عينيك ونهضت من فراشك وأنت فى شوق للوصول إلى مقر عملك فاعلم بأنك فى المكان الصحيح، ولكن، إذا فتحت عينيك وترددت قليلاً «هل أذهب للعمل أم أعتذر» فاعلم بأنك فى المكان الخطأ. حينها عليك أن تذهب وتقدم استقالتك وتبحث عن وظيفة أخرى. عدتُ إلى البيت وعزمتُ على أن أطبق كلامه. فتحتُ عينى فى الصباح التالى فشعرتُ بثقل كبير يجثو على صدرى؛ أدركتُ أننى فى المكان الخطأ. ذهبت إلى عملى حاملاً استقالتى، وضعتها على طاولة مديرى وانصرفت. اتصل بى محاولاً إثنائى عنها لكننى كنتُ مُصراً. مضى شهر وإذا بى فى البيت «لا شغلة ولا مشغلة». كان شعورى حينها فى مكان رمادى بين الفرح والخوف، فَرِحٌ بأننى تخلصتُ من همّ كان يؤرقنى كل يوم، وخائف من ألا أجد وظيفة أعيل بها أسرتى. بعد أسبوعين وجدتُ وظيفة قريبة إلى قلبى، وكانت تلك الوظيفة مدخلى إلى عالم آخر، اكتشفتُ أنه يقبع فى داخلى وكل ما كان علىَّ فعله أن أقوى قلبى وأرفع عنه الغطاء حتى يدخل النور ويَقْشَع الظلام الذى كان يخنقنى فى الداخل. يقول المُدرّب «دان بِنك» إن هناك ثلاثة أنواع من التحفيز، النوع الأول أصيل فى الإنسان، وُلد معه منذ بدء الخليقة، وهو التحفيز النابع من الحاجات الأساسية لبقاء النوع الإنسانى، كالأكل والمأوى والتكاثر وغيرها. أما النوع الثانى فهو ما اصْطُلِح عليه بمفهوم «العصا والجزرة» أو الثواب والعقاب. لكن مشكلة هذا النوع أنه قد يؤدى إلى مشكلات مع العملاء، فعلى سبيل المثال، وَعَد صاحب مرآب «كراج» لتصليح السيارات فنيّيه بأن يخصص مكافأة مالية كل عام لمن يصلح أعطالاً أكثر، فأخذ الفنيّون يصلحون أعطالاً فى السيارات لم يتفقوا عليها مع أصحابها، فارتفعت أسعار الإصلاحات، وبدأ العملاء يشعرون بأن المرآب يستغلهم بطريقة سيئة؛ فكثرت المشكلات وانفضّ الزبائن. وفى العام 1949 قام بروفيسور علم النفس «هارى هارلو» بتجربة على قردة الريسوسى، إذ أعطاهم لعبة بها لغز ونظر ما يفعلون. بدأت القردة بِحلّ اللغز رغم أنه لم يعطهم أى مكافأة، ولما أعاد التجربة، اكتشف أن السبب هو أن القردة وجدت فى العمل الذى تقوم به دافعاً لشىء ما فى داخلها، الفضول ربما أو الشغف باللعب. وهذا هو النوع الثالث من أنواع التحفيز، الرغبة الداخلية النابعة من إرادة دفينة لا علاقة لها بأى ثواب أو عقاب، تماماً مثلما يفعل الناس الذين يكتبون فى ويكيبيديا حتى صارت أكبر موسوعة كونية، واستطاعت أن تتغلب على كل الموسوعات الأخرى التى كان من أشهرها إنكارتا المملوكة لمايكروسوفت إذ استثمرت فيها ملايين الدولارات لكنها فشلت، رغم أن العاملين فيها كانوا يحصلون على أجر مالى. والسؤال هو: ما الذى يدفع إنساناً للبحث وتدوين معلومات فى ويكيبيديا أو لنشر فيديوهات فى «يوتيوب» يشرح فيها قواعد التصوير مثلاً، دون مقابل مادى؟ إنه شعور المرء بأنه يحقق ذاته من خلال ذلك العمل، أو الشعور بالمعنى الذى يُعطيه ذلك العمل ليومه وحياته. أُجريت تجربة على مجموعتين من الأطفال، الأولى أُعطيت أوراقاً بيضاء وألواناً، وطُلب من الأطفال أن يرسموا ما يشاءون دون أن تُحدد لهم مكافأة. وأُعطيت الثانية الأوراق والألوان نفسها لكنهم وُعدوا بمكافأة مالية. بعد أن انتهوا، طُلب من المجموعتين إعادة الرسم والتلوين ولكن قيل لأطفال المجموعة الثانية إنهم لن يحصلوا على مكافأة مالية هذه المرة، فرفضوا الرسم! والسبب هو انتزاع الشعور بالمعنى من داخلهم، وإحلال المقابل المادى مكانه. فى أول يوم من كل سنة أكتب جملة تُحدد هوية العام، كعام الصحة، أو عام الكتابة، أو الإنجاز الوظيفى وهكذا، فسألنى أحدهم كيف يستطيع تحديد هوية عامه؟ فقلتُ له: ابحث عميقاً فى نفسك، هناك فى الداخل، عن الأشياء التى تدفعك للقفز من السرير صباحاً، عن الأشياء التى تفعلها دون مقابل، ودون الحاجة إلى تقدير الآخرين أو اعترافهم، تفعلها فقط لأنها تجعلك سعيداً ومستمتعاً بالحياة. عندما كنتُ أعمل فى الحكومة شاركتُ فى الإعداد لكثير من المشاريع الحيوية فى دبى، وبعد إعلان خبر إطلاق المشروع فى أخبار المساء على التلفاز كان أحد زملائى يتصل بى سعيداً ويقول: «هذا عملنا». فأضحك وأقول له نعم هذا جهدنا، فيقول: «ولكن الناس لا تعرف ذلك!». فأقول له: يكفى أن نشعر أنا وأنت بأننا نقوم بشىء يعطى لحياتنا معنى.