2.5 كيلومتر ممتد يقسم منطقة «وسط البلد» إلى شطرين، يحازى شارع رمسيس، ويستمر جنوباً فى منطقة عابدين، ويمتد مخترقاً ميدان الأزبكية، ويستمر حتى يعبر ميدان مصطفى كامل، ويمر بحذو تمثاله الواقف يلقى بنظراته على العابرين، وعلى جانبيه تمتد محال قطع الغيار، بعدما تبدل حاله، فكانت تصطف على جانبيه المسارح والسينمات.. فالشارع الذى تختلف الأقاويل حول سبب تسميته ب«عماد الدين»، يرجع أحدهم التسمية لشيخ فاضل، وآخر يسوق حكاية لفتوة كان يقوم عمله على حماية مسارح وسينمات المبدعين، التى فاض بها الشارع على جانبيه. على مقعد وثير متاخم لبوابة قديمة يجلس بملامحه المألوفة، وشعر شيبه الزمن، وعينين تتابعان عمالاً يحاولون نفض الأتربة عن لافتة متهالكة «مسرح الريحانى»، التى تراكمت عليها منذ إغلاق المسرح عقب ثورة 25 يناير، يتذكر «سامى» مدير المسرح بالكاد اسم «الشركة العامة للسينمات ودور العرض»، يقول إنها تملكت السينمات الخاصة عقب عملية التأميم فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تلك العملية التى يصفها سامى ب«النكسة»، خاصة بعد أن فشلت الشركة الوليدة فى إدارة السينمات، وتسببت فى إغلاق ما يزيد على 27 مسرحاً وسينما «موظف الحكومة بيقبض مرتبه آخر الشهر ما يهموش إيراد، وما يهموش دعاية، وقارن بعينك كده بين السينمات اللى فى إيد القطاع الخاص والسينمات الأخرى». تحويل دور العرض والمسارح للقطاع العام كان السبب الذى يؤمن «سامى» بأنه أدى لإغلاق دور السينما، وتحويل الكثير منها إلى خرابات فى أوائل الستينات، وحتى بدايات السبعينات، ويروى قصة أحمد الحروفى المنتج السورى، الذى اشترى قطعة أرض وسماها «سينما القاهرة»، وأمامها سينما مصر، وحين توفى وعادت السينما إلى ملكية الدولة، تحولت إلى «خرابة» وأرض «فاضية»، وأحياناً مخزن. «سينما بيجال وليدو والقرصان الشتوى والصيفى وكريم، وكابيتول، ولوكس»، أسماء يتذكرها «سامى» مع وصف لشكل جلوس المتوافدين داخل صالات العرض والمسارح، والكافيتريات التى تعج بالمنتظرين لأفلام فاتن حمامة وإسماعيل ياسين.. مسارح وسينمات حلت محلها عمارات، وأخرى ما زالت آثارها باقية ولكن خرجت من جدرانها محلات قطع غيار سيارات وصرف صحى، حسب روايته، ويشير إلى سينما كريم، التى يظهر عليها «أفيش» لطخته الأتربة وأكل عليها الزمن وشرب، وإلى جوارها لافتة محل لبيع قطع غيار السيارات، ومعارض أدوات كهربائية، بعد تأجيرها من نقابة السينمائيين، التى فشلت، حسب تعبيره فى إدارتها. يشير مدير إنتاج مسرح الريحانى إلى موقع سينما الفرسان، ويتذكر قائلاً: «هنا حضرت فيلم توحة بطولة هند رستم وإخراج حسن الصيفى، وفى استوديو مصر، الحقيبة السوداء لمحمود المليجى، وشكرى سرحان، سنوات مرت حتى محت آثار السينما: «جه علينا وقت مش لاقيين دور عرض نعرض فيها». «فى منتصف عماد الدين، بقيت لافتات استوديو مصر، استبدلت القمامة بالأفيش، رحل الجمهور، وظهر حطام المكان المتهالك، والمغلق بسور خرسانى لا يستطيع أحد الولوج منه للداخل، يظهر المبنى على ناصية شارعين فى موقع متميز، لا يبعد كثيراً عن مسرح نجيب الريحانى، ولكن يظهر كأطلال، مكان كان يتوافد عليه القاصى والدانى سواء لتحميض الأفلام أو لمشاهدتها فى سينماه» يروى سامى. بداخل إحدى البنايات المتاخمة له يقف على سلالمها «على أمين»، الرجل الذى يخطو بهدوء من فرط تقدم السن به، يحمل بين ثنايات عقله ذكريات الشارع الأثير، كيف كان، وكيف تحول إلى تلك الهيئة التى أصبح عليها. عام 1975 حضر «على أمين» إلى شارع عماد الدين، ليعمل بأحد المحال التجارية، التى تملك واحداً منها بعد مرور السنين، ما زال يتذكر أفلاماً كانت تعرض فى سينما «استوديو مصر»، المتاخمة للمحل الذى يمتلكه، ولم تكن -حسب روايته- تلك الخرابة التى تتجمع فيها قمامة الحى، بعدما كانت تجمع المبدعين والقادمين لمشاهدة أفلام كبار عمالقة السينما المصرية، يشير بأصابعه إلى بناية طويلة، قائلاً: «هنا كانت سينما كوزموس»، حضر فيها أفلاماً حين كانت تحتل موقعاً مهماً فى الشارع قبل أن يطالها الإغلاق، لا يعرف أمين سبباً واضحاً لإغلاقها: «سمعنا إنها اتباعت لشريهان، ولكن بيقولوا رجعت لصاحبها، لكن ما حدش يعرف الحقيقة، كل اللى شايفينه منها هو الزبالة اللى فيها ولامة علينا كلاب ودبان وحاجة تقرف». عشرات الأمتار تفصل موقع مسرح نجيب الريحانى، عن قطعة أرض فضاء ومحاطة بسور، وعليها بوابة حديدية كبيرة تتوسطها نافذة صغيرة، ومن خلالها تشاهد «الرتش» والأتربة المتراكمة، وبعض قطع الأخشاب، وغرفة خشبية مغلقة تظهر عليها مقومات المعيشة، وإلى جوار قطعة الأرض «سوبر ماركت» يقف على بوابته رجل خمسينى العمر، يظهر على ملامحه تقدم العمر، يقبع داخل محله من ثمانينات القرن الماضى، «يحيى ثابت»، شاهد على غلق سينما ومسرح مصر، وتحولها لمخزن أخشاب تابع لوزارة الثقافة، فحسب روايته بعد زلزال 1992، سقط سقف المسرح، ولم يستطع المستأجر إعادته كما كان، فسلم السينما لوزارة الثقافة، التى حولتها لمخزن للأخشاب. بكل ثقة يؤكد «ثابت» أن وزارة الثقافة عقدت النية لإعادة بناء السينما، وإعادتها لعهدها الأول، سينما ومسرح، ولكن تلك الوعود نسيت مع مرور السنين «من سنتين فضوها وقالوا هيعيدوا بناءها من جديد ولكن آدى وش الضيف»، يروى ثابت حكاية بناء السينما منذ أن كانت فى البداية نادى «باتيناج»، واستأجرها أحمد الحروفى المنتج، وحولها إلى سينما ومسرح، واستمرت تعرض عليها الأفلام لكبار الفنانين طيلة 15 سنة، حتى أسقط سقفها الزلزال، وحين عادت لوزارة الثقافة مرة أخرى، تركتها على حالها «خرابة» لسنوات. يفتح فمه عن آخره ضاحكاً، حين يتذكر وقتما كان شاباً يدخل السينما لحضور الأفلام التى تعرضها «كان عندى حاجة وتلاتين سنة، وحضرت مسرحيات وأفلام كتير فيها لفريد شوقى، هى كانت شغالة سينما ومسرح عشرة على عشرة».