فى تاريخ الأمم وحياة الشعوب معاهد ومدارس تركت من الأثر ما لا يمكن أن ينمحى من ذاكرة التاريخ وسجلّ الحضارات، وعلى رأس هذه المعاهد والمدارس الأزهر الشريف بما يحمله من منهج وسطى، وفكر معتدل، يحفظ ثوابت الدين وتراث المسلمين ووعاء الثقافة، وإن شئت فقل: يحفظ هويّة الأمة، فقد صان عقيدتها بيضاءَ نقيةً، وحفظ لغتها قويةً رصينةً، وحمى تراثها عبر ما يزيد على الألف عام، ووقف سداً منيعاً فى وجه كلّ محتل أو متربص بمصر وشعبها، مما جعل الأنظار تلتفت إليه والسهام تصوَّب تجاهه، والعقول تفكر فى سبيل اختراقه أو ترويضه، أو بخس جهوده وانتقاص قدره، فخرج علينا من يدعى زوراً وبهتاناً أنّ الأزهر لم يقدم شيئاً فى تلك المرحلة. إنّ من تابع الأحداث التى توالت فى بلدنا وفى العالم العربى من حولنا فى السنوات الأربع الخالية واستقرأ دور الأزهر الشريف بعين الإنصاف وإخلاص النية وقف على دور الأزهر وجهود إمامه فى تلك المرحلة الفارقة من تاريخ الوطن، وفى وقت يعلم فيه الجميع أن مخططاتٍ للإخوان أُعدّت لاختطاف الأزهر وإقصائه عن دوره ومكانته، أو بيع هويّته مثلما أرادوا بيع تراب الوطن، لكن الله تعالى حفظه وصانه بجهود إمامه وأبنائه المخلصين. لقد قام الأزهر الشريف وما زال بدور مهم بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل، فقد حافظ على وحدة المصريين عن طريق بيت العائلة المصرية، وعبر القوافل المشتركة مع رجال الكنيسة الأوفياء، وفتح أبوابه لكل الأحزاب السياسية لتلتقى حول مائدته تلتمس عونه وحكمته، فما بخل يوماً برأى أو تقاعس عن تبليغ رسالته، وحين أحسّ الأزهر الشريف بما يعانى منه المصريون فترة ولاية الإخوان أبدى قلقه، وأعلن عن موقفه من تلك السياسة الفاشلة التى أدت إلى غضب الشعب بكل فئاته وأطيافه -وخاصة بعد الإعلان الدستورى الاستبدادى الغاشم- مما جعل مجمع البحوث الإسلامية برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يصدر بياناً فى ديسمبر 2012 طالب فيه بتجميد الإعلان الدستورى، ووقف العمل به، والدخول فى حوار وطنى يدعو إليه رئيس الجمهورية فوراً وتشارك فيه كل القوى الوطنية دون استثناء ودون شروط مسبقة. وحين تجمّد الحسّ السياسى لدى جماعة الإخوان فلم يقابلوا غضب الشعب وثورته إلا بمزيد من الصّلف والكبر كان الأزهر الشريف بجوار الجيش المصرى الباسل بمثابة واحة الأمان للمصريين، وتحمّل من أجل إنقاذ مصر ما تحمله فى 3/7/2013. هذا إضافة إلى ما تقوم به مشيخة الأزهر الشريف من جهد يتصل فيه الليل بالنهار لوضع خطط لنشر الوعى الدينى، ولعل ما نشهده من إرسال قوافل التوعية والإرشاد التى يتكفّل بها الأزهر ماديّاً ومعنويّاً إلى جميع المحافظات والشركات والمصانع ومراكز الشباب لمواجهة الفكر المتطرف لهو خير شاهد لمن أراد الوقوف على جهود الأزهر الشريف وعلمائه فى خدمة دينهم والدفاع عن وطنهم فى هذه الفترة. كما أنّ ما يعيشه قطاع المعاهد الأزهرية الآن من ثورة يقود زمامها فضيلة الإمام الأكبر لتطوير شامل للمنظومة التعليمية بدءاً من المعلّم حيث الدورات التدريبية التربوية، ومروراً بالمناهج التعليمية تطويراً وتحديثاً بما يتفق وتجديد الخطاب الدينى، وعناية بالأبنية التعليمية نظافةً وتجميلاً، وضرب بؤر الفساد، كل هذا يوقف كلّ ذى بصرٍ وبصيرة على ما يقوم به الأزهر الشريف من إصلاح لمؤسّساته إصلاحاً يتفق مع تاريخ الأزهر ومكانته فى العالم العربى والإسلامى. ولعل النّاقمين والحاقدين على الأزهر الشريف خفيت عنهم أخبار مشيخة الأزهر الشريف من توافد العديد من الوفود من شتى بقاع الدنيا للقاء فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر تلتمس حكمته وتستنير بآرائه ومشورته، وتقف على حضارة الأزهر وتاريخه، مما أسهم بقدر كبير فى تصحيح المفاهيم المغلوطة والمقولات الظالمة عن مصرنا الحبيبة. وأخيراً وليس آخراً وفى ظل ما يقوم به الأزهر الشريف من انتفاضة فى وجه التّطرّف والتّشدّد والجماعات المتاجرة بالدين أعلن الأزهر كلمته للعالم كلّه يوم 4/12/2014 فى المؤتمر العالمى لمواجهة التطرف والإرهاب الذى عقد فى القاهرة مؤكّداً فى بيانه الختامى أنّ «الجماعات المسلحة» و«الميليشيات» الطائفية التى استعملت العنف والإرهاب فى وجه أبناء الأمة رافعة -زوراً وبهتاناً- راياتٍ دينيّةً هى جماعات آثمة فكراً وعاصية سلوكاً وليست من الإسلام الصحيح فى شىء». ألا فليعلم النّاقمون على الأزهر ومؤسساته أن ما يقدمه الأزهر الشريف إنّما هو من واقع مسئوليته والقيام برسالته وواجبه، ومن جهل أو تجاهل هذه الجهود فسلّط سهام المكر والخبث نحو مؤسّساته تشويهاً لصورته وطعناً فى علمائه فما ذلك بمثنيه أو رادّه عن دوره وأداء مهمته، وسيبقى الأزهر الشريف بما وهبه الله تعالى من حكمة وعلم وبأبنائه الأوفياء راسخاً عبر الزّمان، داعماً لوطنه وقضايا أمّته، وخادماً لدينه ورسالته.