مرتين، مرة لنجاحها فى تنظيم انتخابات نزيهة وحرة، ومرة ثانية لأنها نجحت فى هزيمة الإسلامويين. الانتخابات هى أفضل طريقة ممكنة لاختيار الحاكم مع أنه لا توجد ضمانة لأن تأتى الانتخابات بأفضل العناصر للحكم. أفضل نظام للحكم هو ذلك الذى يضع أكثر الناس علماً وحكمة وعدلاً فى قمة السلطة كما دعا أفلاطون، لا أن يتم وضع مسألة اختيار الحاكم فى يد عموم الناس بما فى كثير منهم من سطحية وجهل وتفاهة ومصالح خاصة ونوازع شريرة. المشكلة هى أنه لا توجد طريقة لا يختلف عليها الناس لتحديد من هم أكثر الناس علماً وحكمة، بحيث إن أى محاولة لاختيار الحكماء ستخلق نزاعات وصراعات لا حل لها. الانتخابات هى أفضل طريقة لاختيار الحكام. ولكن الشعوب ليست كلها مهيأة بنفس القدر لاتباع هذه الطريقة، وقد عرف التاريخ مرات كثيرة أخطأت فيها الشعوب الاختيار فى الانتخابات، فدخلت فى نفق مظلم لم تستطع الخروج منه، فبعض أخطاء الانتخابات هى من النوع الذى لا يمكن إصلاحه إلا بتكلفة باهظة، ولن ينسى العالم أبداً أن هتلر وصل إلى الحكم فى انتخابات حرة لم تشهد ألمانيا غيرها حتى سقط هتلر ونظامه، وسقطت معه ألمانيا كلها بعد حرب عالمية مدمرة. الانتخابات قد تأتى للحكم بفاسدين وجهلة ومتعصبين، لكن طبقاً لنظرية «مرة تصيب ومرة تخيب»، ولأن البشر لديهم القدرة على التعلم من أخطائهم، فإن الشعوب تتعلم مع تكرار الانتخابات خبرات تمكّنها من تجنب الوقوع فى الخطأ. فالخطأ فى الاختيار يظل وارداً، لكن احتمالاته تتراجع مع انتشار المعرفة وسعة الأفق وعمق الخبرة، ومع نقص الفاقة والتعصب والعصبية، وهذا هو ما حدث فى تونس. تهيأ التونسيون للتعلم من أخطائهم ولاتخاذ القرار الصائب عبر سياسات طبقتها حكوماتهم منذ عقود. ثار التونسيون ضد نظام استبد وأفسد، لكن هذه ليست كل القصة. نظام بن على الذى ثار عليه التونسيون هو الحلقة الأخيرة من النظام الوطنى العلمانى الذى اختاره زعماء الاستقلال الوطنى والآباء المؤسسون للدولة الوطنية الحديثة فى تونس منذ الاستقلال بقيادة الحبيب بورقيبة. حتى لحظة الاستقلال لم تكن تونس تختلف كثيراً عن شعوب عربية وإسلامية أخرى، وكانت مصر هى البلد الأكثر شبهاً بتونس، بل إن مصر كانت أكثر تهيؤاً للحداثة والديمقراطية من تونس، وإن كانت الاختيارات التى قام بها زعماء ما بعد الاستقلال دفعت البلدين كلاً فى مسار مختلف. ما أتحدث عنه هو الفارق بين الاختبارات التى اتخذها الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية الحديثة وتلك التى اتخذها قادة ثورة الضباط بعد وصولهم للحكم فى العام 1952. بعد الاستقلال بدأ الحبيب بورقيبة حملة قوية لتحديث المجتمع التونسى. التعليم فى عهد بورقيبة أصبح مجانياً وإلزامياً كما فعلت حكومات ما بعد الاستقلال فى كثير من البلاد. لكن تحديث التعليم وتطويره -وليس مجرد زيادة عدد المسجلين فى المدارس- كان ملمحاً رئيسياً لسياسات بورقيبة. اهتم بورقيبة بتحرير المرأة من التقاليد، فأتاح لها فرص التعليم والعمل بمساواة مع الرجال. منعت قوانين بورقيبة زواج المرأة قبل سن السابعة عشرة، وجرّمت العنف ضد النساء وتعدد الزوجات والطلاق العشوائى، فوفّر حماية إضافية للمرأة. حرّمت قوانين بورقيبة حجاب المرأة، ودعا بورقيبة فى خطاباته العاملين إلى الإفطار فى نهار رمضان حتى لا يتعطل الإنتاج، على أن يعوضوا ما فاتهم من صيام فى أيام أخرى. صدمت بعض سياسات بورقيبة مشاعر المتدينين الملتزمين لكن هذا لم يُثنه عن مواصلة حملته التحديثية. صراع بورقيبة مع التيارات الدينية لم يكن على السلطة، وإنما كان صراعاً بين رؤيتين لمستقبل تونس. قاومت الاتجاهات المحافظة سياسات بورقيبة فواجههم برصيده السياسى الكبير باعتباره الزعيم الذى أنهى الاحتلال الأجنبى وأتى لتونس بالاستقلال. لم يخفف بورقيبة من حدة موقفه من التيارات الدينية حتى بعد أن بدأت شعبيته فى التآكل وقويت شوكة المعارضة اليسارية والليبرالية فى مواجهته. ترسخت قيم الحداثة فى المجتمع التونسى، فكان معارضو بورقيبة من اليساريين والليبراليين يتمسكون بمنجزات نظامه الاجتماعية والثقافية فيما يعارضون استبداده. تواصلت المعارضة فى مواجهة خليفة بورقيبة زين العابدين بن على الذى بلغ الاستبداد والفساد والتفاوت الاجتماعى فى عهده مبلغاً بعيداً، فتعمقت المعارضة، لكنها استمرت فى التمسك بمنجزات النظام الاجتماعية والثقافية باعتبارها منجزات للشعب والوطن التونسى وليس مجرد سياسات لنظام سياسى حان وقت سقوطه. المعارضة الإسلامية كان لها رأى آخر فى موقف نظام بورقيبة من قضايا الدين والمجتمع والثقافة، لكن قواعد الحداثة التى أرساها بورقيبة كان لها من القوة ما يكفى لموازنة قوة الإسلاميين المتزايدة. رسوخ قيم الحداثة فى المجتمع التونسى أجبر الإسلاميين التونسيين على تخفيف تشددهم والاقتراب من منطقة الوسط. التوازن بين القوى الإسلامية من ناحية والقوى الوطنية الليبرالية من ناحية أخرى، واتساع مساحة الوسط فى المجتمع والسياسة التونسية هو ما مكّن تونس من تحقيق قفزات كبرى فى اتجاه التحول الديمقراطى. أياً كان رأينا فى السياسات التى اتبعها الزعيم التونسى الحبيب بورقيبة، فالمؤكد أنه لولا هذه السياسات ما كانت تونس لتكون عند النقطة التى تقف عندها اليوم. دروس الخبرة التونسية كثيرة، وأهمها هو أن الديمقراطية تحتاج إلى وجود درجة مناسبة من التوازن بين القوى السياسية الرئيسية، ففى غياب هذا التوازن ينفرد طرف واحد ويستبد. خبرة تونس تشير إلى أن وجود قاعدة قوية لقيم الحداثة الوطنية الليبرالية هو أحد الشروط الرئيسية للديمقراطية، فالديمقراطية هى الابن الشرعى لهذه القيم وليست مجرد قبعة يمكن وضعها فوق رؤوس يملأها ظلام العصور الوسطى.