«نعم ليس ممكناً إقامة حياة ديمقراطية سليمة من دون تنافس بين أصحاب مواقف متحدين فى روابط سياسية تُسمّى أحزاباً، ولديهم اجتهاداتهم بشأن كيفية إدارة شئون الدولة اقتصادياً وسياسياً، إلا أن هذا كله لا يعنى أن نعترف بكيانات صورية مشوهة تدّعى أنها أحزاب» - من القضايا المحبطة التى يعانى منها بلدنا الآن واقع الأحزاب السياسية، فنحن إن وضعناها فى ميزان التقييم سوف نكتشف، وبصورة واضحة لا تخفى على أحد من الشعب، ولا تحتاج لعين خبير، أنها مجرد صور ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمعنى الحقيقى لمصطلح قوى حزبية، فمن حيث البرامج والأفكار لا تجد لأى منها برنامجاً أو فلسفة فكرية مميزة تستقطب من خلالها تأييد فئات من الشعب وكوادر مؤمنة بهذه الأفكار، فبرامج الأحزاب هى عبارة عن مجموعة من الشعارات المتشابهة التى تستخدمها جميع الأحزاب، بحيث إنك إذا قرأت برامج الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية والدينية تكتشف تكرار بعض الشعارات، بل من الممكن أن تجد تطابقاً تاماً فى بعض الأبواب فى أمور لا يمكن أن تتفق فيها هذه التوجهات الفكرية المختلفة مثل البرامج الاقتصادية وأبواب الحقوق والحريات وغيرها، ولا أخفيكم سراً أن معظم الأفكار التى طرحتها الأحزاب فى برامجها منقولة بالحرف من أوراق عمل مؤتمرات الحزب الوطنى، خاصة الأخيرة، وبالتالى لا يوجد عندنا ما يسمى الحزب الفكرى الذى ينضم إليه الناس اقتناعاً بأفكاره، وبالتالى فإن استقطاب الأحزاب للكوادر والتأييد الشعبى يعتمد على أمور وإن اختلفت مسمياتها إلا أنه تجمعها حقيقة واحدة وهى أنها رشاوى وأظن أن ذلك لا يخفى على القارئ الكريم. - كذلك إذا نظرنا إلى الكوادر التى تمتلكها الأحزاب وتستطيع أن تدفع بها فى الانتخابات المختلفة، سوف نرى وبصورة واضحة أن كل حزب لا يمتلك إلا عدداً محدوداً جداً من الكوادر المؤهلة، ولذلك عندما تأتى الانتخابات البرلمانية يتحول المرشح المؤهل للنجاح إلى ما يشبه لاعب الكرة المحترف الذى تتهافت عليه الأندية، فالأحزاب تتهافت عليه وتقدم له الإغراءات حتى يترشح على قوائمها، ليس لأنه مؤمن بأفكار ومبادئ الحزب ويستطيع التعبير عنها، وإنما لمجرد أنه قادر على المكسب، فالأحزاب لا تنظر للمرشح باعتباره كادراً سياسياً قادراً على تحقيق برامجها فى خدمة الشعب، وإنما تنظر إليه باعتبار أنه مجرد مقعد أو صوت داخل البرلمان يعبر فى الغالب عن أفكار لا يؤمن بها، ويؤيد مواقف وقرارات تخدم مصالح، فى كثير من الأحيان، لا علاقة لها بمصالح الشعب، وأتذكر أن أحد رؤساء الأحزاب كان يعرض على بعض النواب المستقلين فى برلمان 2011 أن ينضم لحزبه مقابل سيارة ومبلغ من المال لمجرد أن يكون له نواب داخل البرلمان بغض النظر عن أفكار هؤلاء النواب أو كفاءتهم. - أما من ناحية الممارسة السياسية للأحزاب فحدث ولا حرج، فالأحزاب المصرية حتى تلك التى تدعى أنها مناهضة للاستبداد ومدافعة عن الديمقراطية، عجزت عن الاتفاق على قواعد إدارة الحياة السياسية بشكل ديمقراطى، ولم تستطع التفرقة بين إدارة الخلاف وإدارة العداوة، كما هو متعارف عليه فى العلوم السياسية، فالثانية تعنى إدارة الحرب بالبحث عن أفضل السبل حتى لو كانت غير مشروعة للتغلّب على المنافس، الذى اعتبروه عدواً لهم فى معركة وجودية وأرادوا محوه، بمعنى أنهم لم يستطيعوا التفرقة بين العدو وشريك الوطن الذى وإن اختلف معهم فى بعض القضايا إلا أن هناك ثوابت وطنية، وأسساً دستورية، وقضايا عديدة أخرى متفقاً عليها، وفى هذه الحالة فالقضية ليست معركة وإنما مجرد اختلاف بناء، حتى لو لم يتوصل أطرافه إلى اتفاقٍ بتخلّى أحدهم عن موقفه، وتبنّى موقفٍ آخر، أو إلى تسويةٍ بينهم، المهم أنه فى هذه الحالة لا توجد عداوة أو حروب وإنما فقط منافسة نستطيع معها أن نعمل معاً لخدمة الشعب والوطن، ولا يسعى أحد منا إلى تدمير الآخر كما تفعل معظم الأحزاب مع الأسف. - كذلك لم تستطع الأحزاب من ناحية الممارسة أن تكون صادقة ومنطقية مع نفسها بداية، بحيث يتحرك كل حزب ويخطط بما يناسب حجمه الطبيعى، فنسمع من أحزاب لا تملك أى مقومات أنها ترغب أن تكون أحزاب أغلبية حاكمة وتشكل الحكومة، ونسمع عن اجتماعات يحضرها رؤساء أحزاب يقومون بتوزيع مناصب البرلمان وكأنها تركة وميراث سوف يوزعونه كيفما شاءوا، ولذلك ولأن مصلحتهم الحزبية والشخصية هى الحاكمة فقد فشلت هذه الأحزاب إلى الآن فى تحقيق أى توافق أو وحدة وطنية فى إدارة الانتخابات البرلمانية المقبلة للوصول إلى برلمان وطنى يحقق مصالح الشعب العليا، وبطبيعة الأحوال ومع عدم التجرد واللامنطقية التى تحكم عمل الأحزاب، فقد استقطبت أفراداً وزمراً من محبى السلطة والشهرة، ومن العصبويين على أنواعهم والانتهازيين، وقد يقف خلف بعضها أصحاب مصالح، وبالتالى ومع هذا الواقع المرير يجب علينا أن نعترف بأنه لا يوجد لدينا أحزاب حقيقية. - نعم ليس ممكناً إقامة حياة ديمقراطية سليمة من دون تنافس بين أصحاب مواقف متحدين فى روابط سياسية تُسمّى أحزاباً، ولديهم اجتهاداتهم بشأن كيفية إدارة شئون الدولة اقتصادياً وسياسياً، على أساس قيمى مشترك سبق أن أُرسى، وتحت سقفٍ وطنيٍ، سبق أن رُفع، إلا أن هذا كله لا يعنى أن نعترف بكيانات صورية مشوهة تدّعى أنها أحزاب. - ومن وجهة نظرى وهذا ما أتمناه: فإن البرلمان المقبل لن يكون برلماناً حزبيّاً وإنما هو برلمان المستقلين الوطنيين الذين يجمعهم حب الوطن ومصالحه العليا، فهؤلاء هم من يمثلون الأغلبية البرلمانية المقبلة، وكذلك أعتقد أن الحكومة المقبلة لن تكون حكومة حزبية، وإنما حكومة تكنوقراط من خبراء ومتخصصين لا علاقة لهم بالأحزاب ولا انحياز عندهم إلا للشعب والوطن.