في منتصف السبعينات من القرن الماضي, وحين شهدت مصر الانتقال من نظام الحزب الواحد إلي نظام الحزبية المقيدة, وفي أول خطوة لذلك التي تمثلت في انشاء ثلاثة منابر داخل الاتحاد الاشتراكي, ثم تطورت المنابر لاحقا لتصبح أحزابا, نشأ التجمع الوحدوي الديمقراطي كحزب يمثل اليسار فكريا وطبقيا, وذلك في مواجهة حزبين آخرين, أحدهما يمثل الوسط, والثاني يمثل اليمين. ومنذ ذلك الحين والتجمع يعبر عن رؤية ايديولوجية تعني بمكافحة الفقر وإقرار العدالة الاجتماعية ومواجهة السياسات الليبرالية لاسيما في مجال الاقتصاد وما جرته من خصخصة للقطاع العام وإفساح المجال عريضا أمام القطاع الخاص بكل مستوياته, وانهاء الاستبداد ومكافحة الفساد. لكن الرؤي وحدها لا تكفي مهما كانت معبرة عن مصالح الوطن ككل او الفئات العريضة منه, إذ لا بد من حركة وجذب للأعضاء الجدد وممارسة نضال سياسي وجماهيري منظم ومتواصل والحفاظ علي علاقة ديناميكية متنامية مع الناس أنفسهم. وإذا نظرنا إلي رصيد حزب التجمع من الزاوية الجماهيرية والتأثير السياسي فسوف نجد رصيدا يتآكل رويدا رويدا, ليس فقط تجاه رؤية الحزب الفكرية بل أيضا تجاه الحزب نفسه, وهو ما كشفته عموما نتائج الانتخابات البرلمانية في العقود الثلاثة الأخيرة. يعرف التجمع نفسه وفقا لبرنامجه الانتخابي الصادر في العام2005 والمعنون ببرنامج للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي, بأنه الحزب الذي يناضل من أجل تحقيق الاشتراكية التي ستنهض علي أعمق معاني العدالة والمساواة والحرية والكرامة الانسانية, ولكن البرنامج يعترف أيضا بأن الطريق إلي الاشتراكية هو طرق طويل وسوف يتطلب مرحلة انتقالية تقوم علي التنمية الوطنية المستقلة بالاعتماد علي الذات. ووفقا لأحد قادة التجمع فإن خطط الحزب تستهدف إقامة مجتمع عادل يحمي حقوق الفقراء ويمنح الناس تعليما وأمنا وأمانا وصحة وعلاجا ودواء ونقلا وسكنا, وقيام مجتمع حر متحرر وديمقراطي ليبرالي تقدمي يسمح بحق الاختلاف وبحرية الإبداع ويسمح بحق العمل السياسي وحقوق التظاهر, وهي شروط لازمة من أجل اقناع المواطنين بفكرة تعديل الدستور وبفكرة التغيير. ومن الناحية العملية تبدو الاشتراكية أملا بعيدا جدا, فلكي يبقي الحزب وصولا إلي التمكن السياسي وتطبيق البرنامج ذي المسحة الاشتراكية, عليه ان يبقي في الساحة السياسية اولا, وان ينمو جماهيريا ثانيا, وأن يحصل علي دعم الناس في الانتخابات البرلمانية ثالثا, ويشكل الحكومة رابعا, والتي بدورها ستكون قادرة علي تطبيق الافكار الاشتراكية الواردة في برنامج الحزب. أو بعبارة أخري فإن نجاح الافكار الاشتراكية يتطلب أولا حياة ديمقراطية وليبرالية تسمح للحزب أن يستقطب الناس ويفوز بتأييدهم وصولا إلي عمق السلطة التنفيذية والتشريعية في آن واحد. وكأن اليسار لن يعيش ولن يبقي إلا بالديمقراطية نفسها وحمي الليبرالية السياسية نفسها. وحتي لو افترضنا أن ثمة انتخابات نزيهة وشفافة ولا تدخلات فيها من أي نوع, فهل سيقبل الناس تأييد الأفكار الاشتراكية كالتي يؤمن بها حزب التجمع؟ واقع الحال يقول أن الاستجابة الشعبية للافكار الاشتراكية لن تلبي طموحات اليسار الذي يمثله التجمع, فهذه النوعية من الأفكار والتي تستهدف الحفاظ علي حقوق الطبقات الفقيرة تتطلب درجة أعلي من الوعي السياسي والاجتماعي, وبحيث تستطيع هذه الفئات الفقيرة أن تصبح حاملة للحزب في أي انتخابات برلمانية, والمؤكد أن هذا النوع من الوعي الاجتماعي والسياسي يبدو منقرضا بعض الشئ يقابله حالة لا مبالاة كبري في الانخراط في الاحزاب القانونية, أو الاقتراب اكثر واكثر من برامجها السياسية والانتخابية. فالمسألة هنا أن البيئة الكلية للمجتمع المصري تعد بيئة مغتربة للافكار الاشتراكية, وجزءا من مسئولية الاغتراب نتج عن عدم قدرة الحزب علي تطوير أفكاره واساليبه السياسية والتعبوية بوجه عام, وبالتالي فقد الظهير الجماهيري المناسب والضروري. ناهيك عن تغيرات المجتمع نفسه والنزوع الديني الظاهري الشائع في كافة الاوساط تقريبا. هذه المفارقة بين قوة الفكرة وضعف الحاضنة الحزبية لها, افقدت الحزب ما يمكن وصفه بالدور التنويري والتغييري العام في المجتمع ككل. وكشأن باقي الاحزاب يبدو التجمع الآن مهموما بالقضايا اليومية الجارية اكثر من انشغاله بقضية تغيير الوعي العام, رغم أن هذا الوعي العام هو الذي سيعطي للافكار الاشتراكية وما يصاحبها من مبادئ العدالة الاجتماعية فرصة الانتصار الفعلي. وقد تري قيادة الحزب أن اهتمامها الاول أو الطاغي والمتمثل في مواجهة أفكار جماعة الاخوان باعتبارها جماعة متأسلمين اضروا الاسلام والمجتمع المصري ايما ضرر, يعد شرطا لازما للحفاظ علي سمة التنوير والمدنية المطلوب للدولة المصرية والتي يؤمن بها الحزب بشدة. وإذا كان الصراع الفكري/ السياسي بين التجمع والاخوان مسألة تبدو عادية نظرا للعلاقة الضدية بين البناء القيمي للطرفين, ففي داخل التجمع نفسه من يري ان الاستغراق في مواجهة الاخوان ليس أمرا حكيما علي طول الخط, فهذه المعركة تصب لصالح النظام القائم, والمفترض أن التجمع يؤمن بضرورة تغييره سلميا. وأن من الحكمة أيضا النظر إلي الاخوان كقوة سياسية ذات شعبية, ومطلوب التنافس معها عبر تقوية الذات واستنفار الطاقات الداخلية للحزب والمجتمع معا. وثمة من يميل إلي فكرة ضم الإخوان في ذلك النشاط الحزبي الرباعي المعروف بالائتلاف الرباعي الذي يضم أحزاب التجمع والوفد والناصري والجبهة, والحزب الاخير تحديدا مع توسيع عضوية الائتلاف ليضم الاخوان وحركات المجتمع المدني كحركة كفاية و6 ابريل وغيرهما. لكن قيادة التجمع الرافضة بقوة أي نوع من التنسيق او التحالف السياسي الانتخابي مع الاخوان, تبرر موقفها بأن سقف التغيير الذي تؤمن به الاحزاب القانونية والتزاماتها الدستورية وما يترتب عليه من مسئوليات يختلف في الحجم والاتجاه مع التغيير الذي تنشده الجماعة والتي تقوم علي أساس ديني في حين ان التجمع متوافقا مع الدستور يرفض أي عمل سياسي او حزبي يتم علي أساس ديني. معارضة الجماعة كسياسة رسمية للتجمع هي امتداد لمواقف اليسار التاريخية المناهضة لتوظيف الدين في العمل السياسي. اما باقي الاحزاب الاخري فهي محل ترحيب للانضواء معا في عمل حزبي جماعي يستهدف اساسا تقوية أطر الضغط المعنوية والسياسية علي الحكومة والحزب الحاكم لكي يقبلان بالتزامات وضمانات تؤدي إلي انتخابات نزيهة شرط قبول وثيقة الائتلاف الرباعي. وكشأن حزب الوفد الذي رفع شعار لا انتخابات بدون ضمانات, يساند التجمع هذا الموقف بقوة, ويعتبر ان معركة الضمانات تشكل الهم الاول للحزب في المرحلة المقبلة. ومن بين الضمانات التي يطالب بها التجمع لنزاهة الانتخابات النيابية المقبلة; الإشراف القضائي الكامل ومسؤولية القاضي الكاملة عن رجال الأمن الموجودين في اللجان, والكف عن التدخل الإداري والأمني في سير العملية الانتخابية, وإيقاف العمل بقانون الطوارئ, وتعديل تشكيل اللجنة العليا للانتخابات ومنحها آليات وصلاحيات تمكنها من توفير عوامل النزاهة للانتخابات. وتنقية الجداول الانتخابية والتصويت بالرقم القومي للمسجلين في الكشوف. ويعتبر الحزب أن هذه المعركة لابد ان تحدث في الشارع حيث التحرك والضغط من أجل انتخابات ديمقراطية. واللافت للنظر هنا ان الاستمرار في المطالبة بضمانات لنزاهة الانتخابات لا يعني أن التجمع قد يقاطع الانتخابات كما يدعو حزب الجبهة إلي ذلك إن لم تتوافر الضمانات المطلوبة. وقد اوضح رئيس التجمع بوضوح كامل أن77% من أعضاء الحزب يؤيدون المشاركة في انتخابات مجلس الشعب المقبلة, مع الاستمرار في الضغط لتوفير ضمانات لنزاهة الانتخابات. ويبدو أن تجربة مقاطعة الانتخابات كما حدث في مناسبات سابقة قد بلورت درسا مهما, وهو أن وجود الاحزاب علي الساحة وتقوية دورها مرتبط أساسا بالنشاط الايجابي وليس النشاط السلبي, حتي ولو تضمن النشاط الايجابي احيانا مثل المشاركة في الانتخابات بلا ضمانات كافية علي مخاطرة بالهزيمة. إذ كيف يمكن لحزب ان يتواصل مع قواعده وهو يقاطع الانتخابات ويعزف عن المنافسة. حرص التجمع علي الشرعية القانونية والدستورية, رغم المناداة بتغيير بعض مواد الدستور, تجلي في ثلاث مواقف مهمة; الأول وهو ما يعرف في الساحة المصرية بالتوريث, والثاني ظاهرة د. محمد البرادعي, والثالثة المطالبات الخاصة بإخضاع الانتخابات لرقابة دولية. وإزاء الظاهرة الاولي ثمة رفض, بل وتهديد باللجوء إلي الشارع والمظاهرات لمنعه. أما البرادعي, وبعد تقدير شخصه وخبرته الدولية, يري التجمع في تحركاته أمرا لا يسنده توجه واضح ومحدد, فهناك اسئلة عديدة بشأن الحاضر والمستقبل وحدود التغيير وآلياته لا إجابة عنها لدي البرادعي. فالقضية ليست التغيير وإنما وجهته وآلياته. أما التدخلات الخارجية في العملية الانتخابية, لاسيما الرقابة التي تقوم بها منظمات دولية متخصصة, فهي مرفوضة جملة وتفصيلا, فالتغيير حسب التجمع لابد ان يحدث علي يد المصريين انفسهم وليس بأيدي الغير, أيا كان هذا الغير.