قمت مؤخراً بزيارة للجزائر، مرافقاً لأوركسترا الحجرة التابع لمركز الفنون بمكتبة الإسكندرية الذى أشرف بإدارته، وذلك لتقديم حفل ضمن فعاليات المهرجان الدولى السادس للموسيقى السيمفونية الذى تقيمه الجزائر ويشارك فيه تسع عشرة دولة ببرامج موسيقية تغطى مختلف أنواع ذلك الفن من أوركسترات سيمفونية متميزة إلى أوركسترات الحجرة إلى الرباعيات الوترية، إلى آخره من المجموعات المميزة للموسيقى الكلاسيكية. أبهرتنى جودة التنظيم وبساطته، وحسن التنسيق بين إدارة المهرجان وبين وسائل الإعلام التى تسابقت فى تغطية الفعاليات، ثم الحضور الجماهيرى المكثف، حتى أحسست أن الموسيقى الكلاسيكية هى أكثر الفنون انتشاراً فى هذا البلد الشقيق، فقد علمت من إدارة المهرجان أن متوسط عدد الحضور لكل حفل من حفلات المهرجان هو 800 مستمع، وهو تقريباً العدد الكافى لملء المسرح الوطنى عن آخره! أبهرنى مدى نجاح ذلك البلد حديث العهد بذلك النوع من الفنون فى نشر الوعى به بين عموم الناس، فلقد لاحظت أن الجمهور هو خليط صحى بين المثقفين المسنين والشباب البسيط، وعائلات جاءت بأكملها لتستمتع بأمسية من الفن الراقى، ولكن أهم ما لاحظته هو وجود بعض الملتحين (على استحياء) بين جمهور الموسيقى السيمفونية هناك، فقد لفت نظرى شاب ذو لحية مهذبة نوعاً ما (لكن لا شك فى أنه أطلقها لأسباب دينية)، رأيته منصتاً فى اهتمام خَجِل إلى عزف الأوركسترا، محاولاً فى الوقت ذاته الحفاظ على مظهر متحفظ، لكنه ما لبث بعد قليل أن ترك نفسه رويداً رويداً للموسيقى، تهدهد روحه وتأخذه إلى عالمها الرحب، حتى بدأ يغمض عينيه فى استسلام واضح لسحر الموسيقى. بينما كان هو يستمتع بمتتالية هولبرج للموسيقى النرويجى الفذ «إدوارد جريج» تحت قيادة القائد المصرى الموهوب «ناير ناجى»، كنت أنا أستمتع بما هو أعذب وأطرب من الموسيقى المقدمة، كنت أستمتع برؤية قدرة الفن الهائلة فى استقطاب المختلفين وتقريب الأضداد، استمتعت برؤية ذلك الشاب يفتح قلبه وعقله على ثقافة وفنون الآخر، رأيت مقاومته الغريزية تلين وهو يتبنى هوية أوسع وأشمل، يتقبل ثقافة إخوته فى الإنسانية، لا فى الوطن والدين وحسب. خاضت الجزائر معركة دامية طويلة مع التطرف الدينى ويبدو من النتائج التى رأيتها رأى العين أنها حاربت التطرف على الجبهتين، الأمنية والثقافية، فقد تأسس الأوركسترا السيمفونى الوطنى الجزائرى عام 1992 وواحد من أهم أهدافه الذى يحرص عليها هو التجوال فى جميع محافظات (ولايات) الجزائر الثمانية والأربعين، لينشر الفن الراقى على الجمهور الجزائرى بعدالة ثقافية فريدة يحسده عليها مواطنو دول كثيرة. وأتخيل أن أهداف الأوركسترا الوطنى للجزائر لتثقيف المواطن الجزائرى أينما يعيش تشترك معه فيها المؤسسات الثقافية الأخرى للدولة من مسرح وسينما وكتاب وشعراء، والنتيجة الرائعة لتلك الجهود هى ذلك الشاب وأمثاله الذين يعودون فى هدوء إلى اللحمة الوطنية، وهى رأب الصدع الوطنى رويداً رويداً، شاباً فَشاباً، فتاةً فَفتاة.