قدّر الله تعالى لهذا البلد أن تمتد شدته فى أغلب الأحيان ل«سبع سنوات». فمحن المصريين لا بد أن «تسبّع»! هكذا كانت الشدة التى تعرّضت لها مصر زمن نبى الله يوسف عليه السلام، كما يحكى القرآن الكريم: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (سورة يوسف - الآيات: 47-49). ونظراً للعلاقة الوطيدة بين هذا البلد ونهر النيل، فقد ارتبطت كل المحن التى عاناها المصريون بنهر النيل، وشح الفيضان، وقلة المياه. ومن العجيب أن القرآن الكريم يلخّص حالة «الشدة المصرية» وارتباطها بعدد محدد من السنين فى آية شديدة الدلالة، يقول المولى عز وجل فيها: «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (سورة الأعراف - الآية: 130). وعبقرية هذه الآية الكريمة ترتبط بتوظيف كلمة «السنين» فى وصف المحن التى تعرض -أو يتعرّض- لها المصريون، وكأن قدر الله أن يُمتحن هذا البلد فى استقراره ومعيشته لعدة سنوات. ويقول المؤرخون إن الشدة المستنصرية من أشد المحن التى ضربت مصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والكلاب، إلى حد أن الكلب كان يباع بخمسة دنانير!، كما رُوِى أن الأحباش كانوا يتربّصون بالنساء فى الطرقات ويخطفونهن ويقتلونهن ويأكلون لحمهن! وخرجت مصر من هذه المحنة على يد أمير الجيوش «بدر الجمالى» وزير الخليفة المستنصر، بعد أن نجح فى وضع حد للفوضى والجرائم والفتن، فتخلص من كل رؤوس الفساد فى مذبحة الجمالية، وأعاد السيطرة على الحكومة، وأعاد سلطة القانون للبلاد، وصار لقبه أمير الجيوش «بدر الجمالى»، وإليه يُنسب حى الجمالية بالقاهرة. وبصعود «أمير الجيوش» إلى منصة الحكم إلى جوار الخليفة الضعيف «المستنصر» بدأ عصر جديد فى تاريخ الدولة الفاطمية أصبحت الكلمة العليا فيه لأصحاب السيوف وصار «وزير السيف» هو صاحب الكلمة العليا فى مؤسسة الخلافة الفاطمية الواهنة، أخذ «بدر الجمالى» يستحوذ على أرفع المناصب فى الدولة، بالإضافة إلى «إمرة الجيش»، وأصبحت خيوط السلطة كلها فى أصابعه، وأدخل «الجمالى» العديد من الإصلاحات فى الجهاز الإدارى للدولة، وأعاد تقسيم البلاد إلى مجموعة من الولايات (المحافظات بالمصطلح الحديث) شملت قوص والشرقية والغربية والإسكندرية، بالإضافة إلى القاهرة والفسطاط، وهو الأمر الذى ساعد أمير الجيوش على إحكام سيطرته على البلاد من ناحية، وأدى إلى ضبط الأوضاع العامة، بعد حالة الفوضى التى سيطرت بالتوازى مع المجاعة التى تعرّضت لها البلاد من ناحية أخرى. ويبدو أن فكرةً ما ترسّخت داخل الوجدان المصرى نتيجة تجربة «بدر الجمالى». وتذهب هذه الفكرة إلى أن أمير الجيوش هو الأقدر على انتشال مصر من وهدتها، وأن باستطاعته أن يخرج مصر من محنتها، كما فعل «الجمالى» حين استطاع أن يخرج بمصر من «خنّاق» الشدة المستنصرية. ويقول المؤرخون إن المصريين والخليفة «المستنصر» فرحوا أيما فرح بنجاح أمير الجيوش فى تحقيق مهمته، لكن الخليفة نسى أن «وزير السيف» كان يفعل ذلك طمعاً فى السلطة، وليس من منطلق الولاء أو الإخلاص له، وبالتالى فقد كان موقف «المستنصر» عاصف السذاجة، لكن للإنصاف نقول إنه لم يكن بيده حيلة، ولم يكن أمامه سوى أن ينظر إلى «الجمالى» بمثالية، ويتوقع منه أن يعيد إليه سلطته وسلطانه بعد استتاب الأوضاع، وهيهات. فقد أخذ «الجمالى» السلطة بحقها، وبالتالى كان أولى بالسيطرة ممن ألقى بالبلاد فى أحضان المحنة. ظل «الجمالى» يبسط يد السيطرة على البلاد، وقلَّص من نفوذ العسكر الترك، وأعاد إلى وزارات الدولة هيبتها، بعد أن كادت تتعرض للتفكك، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية التى ضربت البلاد، وعاونه فى إنجاز هذه الأهداف ابنه «الأمير الأفضل» الذى كان رجلاً عسكرياً مثل أبيه. وقد عاش أمير الجيوش ثمانين عاماً، وشيئاً فشيئاً أخذ فى الانسحاب والاختفاء من المشهد بسبب المرض وكبر العمر، خصوصاً بعد إصابته بمرض الفالج (الشلل) ليتولى الأمر من بعده ولده «الأفضل»، وكان الأخير «عسكرياً» مثل أبيه، لكنه كان أشد شراسة منه فى تحجيم سلطة الخليفة «المستنصر»، ومارس نوعاً من الديكتاتورية العسكرية التى لا تُخطئها عين محلل، وأصر على أن يعهد «المستنصر» بالأمر من بعده إلى ولده الأصغر «المستعلى» ليحرم الابن الأكبر «نزار» من حقه الشرعى فى تولى سلطة أبيه، وهو الأمر الذى أحفظ الكثير من الأهالى -خصوصاً من الإسكندرية- على الخليفة الجديد، وأثار أيضاً حفيظة «حسن الصباح».. وما أدراك من حسن الصباح!