البابا تواضروس يستقبل وفدا من الرهبان الفرنسيسكان    جامعة الفيوم تنظم قافلة شاملة لأهالي قرية ترسا بسنورس    وزيرا التنمية المحلية والعمل التعاون يبحثان أوجه التعاون لتنفيذ مبادرة بداية    تنصيب كلوديا شينباوم أول رئيسة للمكسيك منذ استقلالها    موعد مباراة الأهلي وسيراميكا في كأس السوبر المصري    حالة الطقس بوادي النطرون غدًا الخميس 3-10-2024    فرقة "القلوب البيضاء" لذوي الهمم تشعل مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية    أستاذة بالقومي للبحوث تحصد جائزة القيادة في العلوم والتكنولوجيا العالمية لعام 2024    تجديد ندب عميد معهد بحوث دراسات البيولوجيا الجزيئية بجامعة أسيوط    تغيير كبير.. أرباح جوجل بالعملة المصرية فقط    ظاهرة فلكية تُزين السماء 6 ساعات.. متى كسوف الشمس 2024؟    الجيش الأوكراني يؤكد سيطرة القوات الروسية على بلدة فوهليدار في منطقة دونيتسك    محافظ الغربية يناقش مستجدات الموقف التنفيذي لمشروعات «التنمية الحضرية»    هل تنتقم فاتن من زوجها بعد الشروع فى قتلها فى مسلسل برغم القانون    نص خطبة الجمعة المقبلة.. «نعمة النصر والإستفادة بدروسها في الثبات»    جولة بحرية بقناة السويس للفرق المشاركة بمهرجان الإسماعيلية الدولى للفنون الشعبية    حبس المتهم الهارب في واقعة سحر مؤمن زكريا المفبرك    حماس تدين جرائم الاحتلال باستهداف مراكز الإيواء في قطاع غزة    رئيس الوزراء: نعمل على تشجيع القطاع الخاص وزيادة مساهمته    محافظ مطروح يناقش خطة إطلاق ندوات توعوية للمجتمع المدني بالتعاون مع القومي للاتصالات    كشف أثري مثير.. العثور على حجرة دفن ابنة حاكم إقليم أسيوط    مشاركة ناجحة لدار الشروق بمعرض الرياض الدولي للكتاب والإصدارات الحديثة ضمن الأكثر مبيعا    شيخ الأزهر يكرم طلاب «طب أسنان الأزهر» الفائزين في مسابقة كلية الجراحين بإنجلترا    رئيس جامعة الأزهر: الإسلام دعا إلى إعمار الأرض والحفاظ على البيئة    حزب المصريين: مشاركة المواطنين في مناقشات قضية الدعم نقلة نوعية    جوارديولا: جوندوجان لعب أسوأ مباراة له ضد نيوكاسل.. وفودين ليس في أفضل حالاته    جهود «أمن المنافذ» بوزارة الداخلية فى مواجهة جرائم التهريب    بروتوكول تعاون بين الاتحادين المصري والتونسي لكرة اليد    عبد الواحد: فوز الزمالك بالسوبر المصري سيتحقق بشرط.. وجوميز رفض بعض الصفقات    تفاصيل زيارة أحمد فتوح لأسرة المجنى عليه.. وعدوه بالعفو عنه دون مقابل    متفوقا علي مبابي وبيلينجهام .. هالاند ينفرد بصدارة ترتيب أغلى اللاعبين فى العالم ب200 مليون يورو    وزير الشباب والرياضة يتابع مجموعة ملفات عمل تنمية الشباب    وزير الثقافة يلتقي أعضاء نقابة الفنانين التشكيليين (صور)    فتح باب التقدم لجوائز الدولة للتفوق فى فروع الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية    الحوار الوطني.. ساحة مفتوحة لمناقشة قضايا الدعم النقدي واستيعاب كل المدارس الفكرية    حقوقيون خلال ندوة بالأمم المتحدة: استمرار العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان يقوض السلم والأمن الدوليين    عالم أزهري: 4 أمور تحصنك من «الشيطان والسحر»    بعد أحداث الأمس، وزير الطيران يشيد باحترافية ضباط مراقبة الرحلات الجوية    مركز السموم بطب بنها يستقبل 310 حالات تسمم خلال شهر    قافلة طبية في قرية الشيخ حسن بالمنيا ضمن مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان    جمال شعبان: نصف مليون طفل مدخن في مصر أعمارهم أقل من 15 عامًا    منح الرخصة الذهبية للشركة المصرية للأملاح والمعادن بالفيوم «أميسال»    الكيلو ب185 جنيها.. منفذ "حياة كريمة" يوفر اللحوم بأسعار مخفضة بالمرج.. صور    النيابة تطلب تحريات مصرع عامل تكييف سقط من الطابق الثالث في الإسكندرية    الجمعة المقبل غرة شهر ربيع الآخر فلكياً لسنة 1446 هجريا    الجيش الأردنى يحبط محاولة تسلل وتهريب كميات من المواد المخدرة قادمة من سوريا    بالصور.. 3600 سائح في جولة بشوارع بورسعيد    «بونبوناية السينما المصرية».. ناقد: مديحة سالم تركت الجامعة من أجل الفن    رحيل لاعب جديد عن الأهلي بسبب مارسيل كولر    سقوط 6 تشكيلات عصابية وكشف غموض 45 جريمة سرقة | صور    وزير الداخلية يصدر قرارًا برد الجنسية المصرية ل24 شخصًا    "أبوالريش" تستضيف مؤتمرًا دوليًا لعلاج اضطرابات كهرباء قلب الأطفال    تنسيق 2024.. رابط نتيجة معادلة دبلوم التجارة بالمجلس الأعلى للجامعات    وزير الري يلتقى السفيرة الأمريكية بالقاهرة لبحث سُبل تعزيز التعاون في مجال الموارد المائية    جيش الاحتلال الإسرائيلي يوسع نطاق دعوته لسكان جنوب لبنان بالإخلاء    أمين الفتوى: الأكل بعد حد الشبع حرام ويسبب الأمراض    انتخابات أمريكا 2024| وولتز يتهم ترامب بإثارة الأزمات بدلاً من تعزيز الدبلوماسية    خبير عسكري: إسرائيل دخلت حربًا شاملة ولن يوقفها أحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ذائقة الموت».. محمود الكردوسي يرصد حياة الصعيد في روايته الأولى
نشر في الوطن يوم 17 - 01 - 2021

«خرَّ الطائر عند قدمَى الأعرابى فى خشوع، وهو لا يكاد يدرك شيئاً مما يجرى. أحسَّ أن قوة جبارة تسحبه من سُرة روحه. كانت روحه المسكينة الضئيلة تسبقه، ووعاؤها يلاحقها كجنين يسبح فى بحر من نور. صعد الأعرابى على ظهر الطائر، فبسط جناحيه الهائلين ومرَّ على غابة الحلفا، فانحسرت عن قوسين من الأرض الخصبة.. انبسطت «الربوة» بينهما كراحة اليد. وفى القلب من الربوة ارتفع مقام ذو قبة حجرية، وشواهد من رخام أملس يتلألأ كلحم العذراوات، وحزام من ساتان أخضر كُتب عليه: (من دخل حضرتى بورك باليقين.. ثم مات على شكوكه)».
الكاتب ينتصر للحقبة الناصرية
فى روايته الأولى «ذائقة الموت» يأخذنا الكاتب محمود الكردوسى لأمكنة وأزمنة بعيدة أسطورية وواقعية، أحداث قبلية وطائفية فى قرية نائية فى قلب الصعيد، حيث تدور وقائع الرواية، قرية يختلط فيها الدين بالتقاليد بالعرف بالخرافة.
أحداثها تنطلق من زمن أسطوري مروراً بفترات تاريخية منها «ثورة 19» ونكسة «يونيو 67»
بيئة تهيمن عليها ثقافة القبلية. عبر 340 صفحة تتقصَّى الرواية، الصادرة حديثاً عن دار العين للنشر، حياة قرية «الربوة»، فتنطلق الأحداث من زمن أسطورى، مروراً بفترة تاريخية من القرن الثامن عشر، مرحلة «شيخ العرب همام»، تجاوزاً إلى زمن ثورة 1919، وبعدها إشارة إلى نكسة يونيو 1967، لتتوقف الأحداث يوم رحيل الرئيس جمال عبدالناصر.
يركز النص على ما وراء «ما جرى»، أو الطبقة الأعمق من باطن الأحداث، وربما لذلك ينطلق من نقطة النشأة (سواء نشأة القرية أو بداية الصراعات المختلفة)، وأتصور أنه لو اكتفى القارئ بتتبع سرد الحكايات المتشابكة والمتصلة، لحصد متعة آتية من جمال وجلال الكتابة، ليتوقف بين صفحة وأخرى متسائلاً: كيف تمكَّن «الكردوسى» من التقاط وابتكار وتضفير جميع هذه المشاهدات القاسية والمبهرة فى آن واحد؟!
«لم تكن هناك حياة، يقول بعض سكان الوادى: (منذ ثلاثمائة عام) ويقول آخرون: (بل منذ ثلاثمائة ألف عام)، كانت هناك ربوة ضبابية ملتهبة تسبح فى خلاء موحش، وتحيط بها غابة حلفا غارقة فى مياه آسنة، ولا يجرح سكونها سوى خليط من أصوات غامضة مخيفة. وتبدو النجوم فى ظلمتها الحالكة أسراباً من الأرواح الشريرة يلاحق بعضها بعضاً».
من زاوية عين الطائر المحلق، يستهل المؤلف نصه، موحياً بفكرة «التجلى» والرهبة، ليوهمنا بأن الصوت (تنزيل) قادم من جهة فوقية، وبأن ما هو آتٍ ما هو إلا نص مقدس، أو سِفْر من أسفار الأنبياء، يوجب على المتلقى التزام الصمت من باب الأدب، فيتحدث الراوى العليم بعبارات شديدة الكثافة عن نشوء القرية «الربوة»، فنشعر كأنه يشرح إحدى نظريات نشأة الكون من السديم أو العدم، أو أنه يحكى علينا واحدة من أساطير قصة الخلق، وكأن المكان موجود منذ الأزل، وأن كل ما كان قبل هذه البلدة الصغيرة ما كان، أو كأن قدسية القول ستُضفى بركة أو لعنة على هذا المكان. فهل يكون أحد أسباب الانطلاق من هذه البداية البارقة هو بُعد المؤلف مكانياً عن الصعيد، أم حالة من حالات الرفض لهذا الإرث من القسوة؟!
العلاقة بين المسلمين والأقباط على رأس القضايا المطروحة فى العمل، تناقشها الرواية من الصفحات الأولى بلا تزييف ولا مواربة، فتقدم صوراً شتى لهذه العلاقات المتفاوتة بين الصداقة والتقدير حيناً والاضطهاد أحياناً، فنجد مثلاً العمدة «عبدالجواد الدكر» يقيم مراسم جنازة لرفيقه القبطى المقدس بخواجى، وفى دار المناسبات الخاصة بالعائلة، وهو تقدير خاص:
«تحامل على نفسه -يقصد العمدة- وبدافع من الشعور بالحب والذنب، قرر فى سابقة هى الأولى من نوعها فى الربوة، أن ينصب لبخواجى جنازة فى مندرة بيت الدكر -أى فى دار المناسبات الخاصة بالعائلة- وأن يتلقى فيه العزاء كأى مسلم».
كما تحفل الرواية أيضاً بصور أخرى من العلاقة بين المسلمين والأقباط، منها الشراكة فى المشروعات الاقتصادية (وابور الطحين مثلاً). وفى هذه القرية -فضاء الأحداث- نجد شخصيات مسيحية من الأعيان لها وضعها الاجتماعى المرموق، بينما للكادحين النصيب الأكبر من القهر، كفقراء المسلمين تماماً.
شخصيات الرواية مرسومة بعناية، على المستوى الشكلى والنفسى، بما فيها الشخصيات الثانوية التى نالت حقها أيضاً من الاهتمام، حتى إننا نشعر أن هذه الشخصيات حية أمام أعيننا بصحتها وبمرضها وقوتها وعللها النفسية: «بيضاء كاللبن الحليب تشوبها حمرة، وجهها عربى يكاد يكون مربعاً. كفَّاها صغيران كعصفورين أليفين، وذراعها كالكعك النى، وعلى جانبَى فمها نغزتان تضاعفان من سحر ابتسامتها. فارعة، ثابتة كالفرس عندما تقف، لكنها تتخلَّع فى مشيتها كالناقة».. حين يتحدث عن «عسكرية» زوجة «همام» وإحدى البطلات الرئيسية فى الرواية.
«عبدالله» الشخصية الأكثر إيجابية فى النص، بل يكاد يكون هو الشخصية الأكثر براءة، والتى تتسم بنزعة صوفية رغم صغر سنه، وهى كذلك تستدعى شخص المسيح عليه السلام، إذ يولد من أمه المسيحية «ميسم»، وكأنها المقابلة لمريم، وأب غير مؤكد إن كان «همام» أم روحاً نورانية، فتظهر على الصبى علامات النبوغ فى سنىِّ عمره الأولى، متفوقاً على أقرانه فى مراحل تعليمه فى المدرسة، حتى إنه حين يُتهم فى جريمة، يُخفَى عن الأنظار، بما يشبه فكرة المعجزة، ويُقدَّم للمحاكمة المجرم الحقيقى، إذ يُشبَّه عليهم عبدالطاهر بدلاً من عبدالله. وهو ما يستدعى فكرة صلب شبيه عيسى بدلاً من المسيح الحقيقى فى العقيدة الإسلامية. ويعود للظهور يوم موت الزعيم، وكأن الموت بعث أو قيامة، لنفهم أن الموت لحظات انكشاف «عبدالله» وتجلى «الحلفاوى»، حدث مستحق للاحتفاء به.
تعود جذور الاختلاف أو الخلاف بين الطائفتين إلى التنازع حول صورة الحلفاوى صاحب المقام: «ثم تراجع اهتمامهم بأمر المقام، وبدأ كل منهم يرسم ل(الحلفاوى) نفسه صورة يعتقد أنها جامعة لصفته، تعددت الصور، وبعضها كان يهبط به أحياناً إلى درك الحيوانات نازعاً عنه كل قداسة وتأثير». والحلفاوى أحد الرموز الغامضة والموازية فى حضورها للأبطال، بل والمفسرة للأحداث، لكنه رمز مختلف عليه: «الأقباط يقولون: إن الحلفاوى هو جدهم الأعلى (بولص)»، «والمسلمون يقولون أيضاً: إن الحلفاوى جدهم الأكبر (سلمان)»، «وهكذا عاش أهل الربوة قرناً ونصف القرن من الزمان تقريباً وهم لا يعرفون إن كان الحلفاوى وهماً أم حقيقة. هل هو بولص بن منقريوص، أم سلمان بن عامر. أم ثالثهما؟ وهل يستحق أن يكون له مقام تطوف حوله الأرواح؟». لكن هذا الاختلاف حول هيئة وحقيقة وجوده لا يمنع أهل القرية من القسَم به، واللجوء إليه شاهداً ومعيناً على كافة تعاملاتهم، بل وملاذاً للفارين والخطائين والمستضعفين منهم على طول الخط، إلا أن المؤلف يقدم تجلياً خاطفاً للحلفاوى، وكأن المؤلف ينتصر لحقيقة «وجوده»، فى يوم رحيل الأستاذ عبدالرحمن، وهو اليوم نفسه الذى يرحل فيه الزعيم جمال عبدالناصر، إذ يتجلى الحلفاوى على الجنازة: «ومن بعيد، من غرفته المعتمة فى قلب المقام، أطلَّ الحلفاوى على الموكب: (هذا ليس بلداً بل مماتة)!»، ص 341.
الثأر واحد من الموضوعات المحركة للأحداث أيضاً، ومنذ بداية النص: «سقطت الربوة فى فوضى. خُربت بيوت، وأُحرقت أراضٍ، وتدحرجت رؤوس على مطالع القرية ومنحدراتها»، ص 23.
أسباب القتل ترتبط بمفهوم الشرف، أو لأسباب أقل شأناً، لكنه قتل بشع فى أغلبه، إذا يتطرف الناس فى كرههم كما يتطرفون فى محبتهم وانحيازاتهم إن وُجدت.
والمرأة والرغبة والجنس تخلق أحداثاً متشابكة، بل قد تكون سبباً مباشراً لجرائم الثأر فى الرواية.
ونماذج النساء المقدمة، القليل منها يتميز بسطوة، مثل «عسكرية» زوجة شيخ البلد، وسطوتها مستمدة من كونها ابنة أحد الأعيان وزوجة شيخ البلد، كما أنها تستمد سطوتها من جمالها وإنجابها للذكور (وهى مؤهلات النساء فى الصعيد)، «فريدة» أيضاً نموذج للمرأة المتورطة فى العلاقة غير الشرعية بعد رحيل زوجها مع «عبدالواسع»، ولأنها ابنة العمدة فعقابها الحرمان من الميراث، بينما يُقتل «عبدالواسع» شر قتلة.
حانز نموذج للفتاة التى تُقتل حين يتم اغتصابها، كونها الأقل شأناً (طبقاً للوضع الاجتماعى المتوسط)، تُقتل بدم بارد بحجة غسل عارها! وبعلم أمها ونساء أسرتها.
بينما «مثوى» يلاحقها عار آخر «كونها بنت حرام»! لكن دون عقاب «من الطبقة الأدنى»، وهو ما يؤكد عنصرية هذا المجتمع فى تعامله مع المرأة والأقليات.
الرواية تدين عادات الثأر والتمييز ضد المرأة
ترصد الرواية أيضاً ما تتعرض له المرأة من قهر الزوج وقهر الأبناء، والحرمان من الميراث، حتى إنها تتعرض للموت فى عملية «الختان» أو الوأد لمجرد أنها أنثى!
موت الزعيم جمال عبدالناصر 1970 وجنازته هى لحظة التنوير والنقطة الأعلى التى تقف عندها أحداث الرواية، فتأتى خاتمة لحالات الموت الصغير وبروفات القتل المبرر وغير المبرر، إذ تتوقف عند هذا الحدث أزمنة وطموحات وسير حياة هذه البلدة، ليصير ما قبلها مجرد أحداث عابرة، فتطغى مشاهد الجنازة المتوحدة مع جنازة أحد أبرز أبطال الرواية «الأستاذ عبدالرحمن» مُعلم التلاميذ:
«ما أكثر الرجال الذين قدمتهم الربوة قرابين للموت، لكنها لم تبكِ رجلاً من قبل مثلما بكت الأستاذ عبدالرحمن. ما من عائلة، غنية أو فقيرة، إلا وشاركت فى الجنازة، ما من قرية أو نجع أو نزلة فى الزمام، إلا وأرسلت وفداً لتقديم العزاء».
الموت الكبير الذى يحدث يوم موت الزعيم لا يخلف حالة الحزن المتعارف عليها، لكنه قيامة وبعث، إذ هو لحظة الانكشاف والتجلى، فيظهر «عبدالله» الشخصية المشابهة لفكرة المسيح، ويتجلى «الحلفاوى» فى هذا اليوم:
«الدكاكين أغلقت أبوابها: لا بيع اليوم ولا شراء، البيوت أطفأت نورها ونارها، أطفأت قناديلها وكوانينها وأفرانها، لا حكايات ولا مكائد، لا خبيز ولا طبيخ، لا شهوات ولا ألعاب صغيرة، الفلاحون حبسوا ماشيتهم وعلقوا فئوسهم ومقاطفهم على جدران الحظائر والزرايب، الصبية توقفوا عن اللعب، واختبأ الأطفال فى أحضان أمهاتهم، النساء اتشحن بالسواد ووقفن على أسطح البيوت وعتباتها يولولن ويُهلن التراب على رؤوسهن».
ومع أن المؤلف أوهمنا فى البداية بأنه بعيد تماماً عن الأحداث، إذ يتحدث إلينا من علٍ، إلا أنه، وعبر فصول ولغة النص، نشعر به حاضراً بقوة، متخذاً وضعية الجلوس على مصطبة أو دكة فى إحدى ساحات القرية. وفى الخاتمة نشعر أن المؤلف ما كان محايداً على الإطلاق، بل متورط بشكل أو بآخر فيما كتبه عن هذا المجتمع وشخوصه، ليقدم لنا مساءلة للحياة والنفس البشرية ب«فجورها وتقواها»، وعلاقة الإنسان بالآخر وبالإله وإيمانه بالغيب وموقفه من الموت، ليشعر القارئ بذائقة النص على نفسه، حتى بعد الانتهاء من قراءة «ذائقة الموت» ليسأل نفسه: هل انتهيت من قراءة النص أم لا؟!
«ذائقة الموت» رواية خصبة على كافة المستويات، فيها مساءلة لأحداث الحياة، من سطوة وترف وثقافة وسياسة، وعلاقات إنسانية معقدة، جاءت مقاطعها ثرية بالصور الحية، ولغتها ملحمية ومختارة بعناية فائقة، بعيدة عن ميوعة الحياد، يظهر فيها بوضوح تأثر المؤلف بلغة القرآن الكريم، وباللغة الصوفية. العمل يستحق القراءة المتأنية والعميقة، إذ إنه نص لا يكشف عن نفسه من القراءة الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.