مبادرة الرئيس السيسى بالتخلى عن نصف راتبه وممتلكاته لصالح الدولة تضرب مثلاً وتقدم قدوة قد تغرى آخرين بالتقليد، لكن أهم ما فيها هو أنها تمنح الرئيس الشرعية والقوة لإعادة الانضباط فى التعامل مع شئون الثروة والمال العام. ما فعله السيسى يمنحه فرصة كبيرة لإعادة الاحترام للوظيفة العامة بعد أن أصبحت مرادفاً للكسب المادى. مبادرة السيسى تتحدى المفهوم المملوكى للحكم والوظيفة العامة الذى يجعل المنصب العام أداة للإثراء. لم يكن الموظف العام فى النظام المملوكى يتلقى راتباً، ولكنه كان يجمع ثروة من المصلحة التى يعين ملتزماً عليها، فيجمع منها الضرائب والرسوم على هواه، ليرسل الجزء المطلوب للدولة ويحتفظ بالباقى لنفسه. نظامنا الراهن يحاول أن يكون حديثاً فيحدد للموظف العام راتباً، ولكنه يحتفظ بالتقاليد المملوكية، فيحصل الموظف العام على دخل إضافى، مرة بالاحتيال على الدولة ومرة بالاحتيال على المواطنين، فأصبحنا نخسر مرتين. فى التقاليد المملوكية السلطة هى مصدر الثروة، وهى نفس التقاليد التى تم إحياؤها فى عهد مبارك عندما لم يكن مقبولاً أن تقل ثروة أهل السلطة عن ثروة من هم خارجها، حتى لو كان الأخيرين متفرغين للاستثمار وتنمية الثروات. لم يكتفِ المسئولون فى نظام مبارك المملوكى بالسلطة، وإنما أرادوا أن يجمعوا معها الثروة أيضاً، فانهار نظامهم كما انهار نظام المماليك. عبدالفتاح السيسى يقدّر ويحترم السلطة التى فى يديه، وهو قانع بها ولا يحتاج للثروة لاستكمال مسوغاتها. إذا شاعت هذه الروح بين المسئولين فى مصر لنجحنا فى محاربة الفساد الذى يبدأ عندما يتم توظيف السلطة لجمع الثروة، أو عندما يجرى تبادل المنافع بين أهل السلطة وأهل الثروة، لتنتج زواج المال والسلطة الذى عرفناه فى العقود الثلاثة الماضية. هذا -فى رأيى- هو المغزى الأهم لمبادرة الرئيس السيسى، وهو أهم بكثير من الأموال التى تطوع البعض للتبرع بها احتذاء بالرئيس السيسى الذى لم يطلب من أحد أن يفعل مثله. فالنزاهة وطهارة اليد من أهم شروط الحكم الصالح، وأثرها على التنمية الاقتصادية هائل، أما الجدوى الاقتصادية لتبرعات يضعها المواطنون بين يدى الدولة فإنها تحتاج إلى مزيد من الدراسة والشرح. فهل هذه التبرعات عمل يتم لمرة واحدة لحل مشكلة مؤقتة، أم ستصبح جزءاً دائماً من موارد الدولة؟ هل ستصبح أموال التبرعات جزءاً من الموازنة العامة للدولة لتخفيض العجز الكبير فى الموازنة أم سيتم استخدامها لأغراض أخرى تحتاج للإفصاح عنها؟ هل ستوظف الحكومة هذه الأموال لدفع رواتب موظفين لا احتياج لهم، ولدفع أرباح يطالب بها عمال قطاع عام خاسر، ولتغطية فاتورة دعم يذهب أغلبه للأغنياء؟ هل ستتاح هذه الموارد الجديدة للحكومة لتوظيفها فى الاستثمار، وما الاستثمارات التى يمكن تنفيذها باستخدام هذه الأموال؟ هل الحكومة والبيروقراطية المترهلة أكثر كفاءة فى استثمار هذه الأموال من المواطنين الذين تبرعوا بها؟ إدارة الأموال السائلة التى يتبرع بها المواطنون سهلة، لكن ماذا عن تبرعات تأتى فى شكل عقارات وسندات وأسهم ومجوهرات وأشكال كثيرة أخرى؟ هل سيجرى إدارة هذه الأموال عبر أجهزة مستقلة تخلق بيروقراطية جديدة، أم عبر جهاز حكومى يحتاج إلى إصلاح عميق؟ تطوع بعض الأثرياء للاحتذاء بالرئيس السيسى، وإذا دفع هؤلاء الضرائب المستحقة عليهم، أو تمت زيادة الضرائب المطلوبة منهم، لأتيحت موارد كبيرة تسمح بمواجهة الاحتياجات. لو طورت مصلحة الضرائب نفسها لاستطاعت تحصيل الضرائب المستحقة من أغنياء لا يخجلون من التهرب من الضرائب. يوجد فى هذا البلد أطباء ومحامون ومدرسون وفنانون وتجار عقارات واستشاريون فى كل المجالات لا يدفعون مليماً واحداً من ضرائبهم، ويوجد أصحاب أعمال يتحايل محاسبوهم فاقدو الضمير لإخفاء أرباحهم، كما يوجد أثرياء كثر يجمعون ثرواتهم فى القطاع غير الرسمى الكبير دون أن تعرف الدولة عنهم شيئاً. على الأثرياء أن يدفعوا الضرائب المستحقة عليهم، وعلى الدولة إرغامهم على ذلك، وما يتبقى لهم بعد ذلك عليهم توجيهه للاستثمار، فيخلقون الوظائف وترتفع معدلات النمو وتزيد الحصيلة الضريبية وتنحل مشكلة عجز الموازنة. لو وفرت الحكومة المناخ المواتى للاستثمار الخاص لتراجعت حاجتها للدخول فى مجال الاستثمار، ولوفرت على نفسها عبء إدارة استثمارات لنا فى القطاع العام نموذج لها، فالقطاع الخاص رغم مشاكله هو مستثمر أفضل وأكثر كفاءة من الدولة. روح الزهد فى الثروة والحياة الرغدة التى يتحلى بها الرئيس السيسى تعطى للدولة الشرعية اللازمة للتدخل بفرض ضرائب ورسوم إضافية على الإنفاق الترفى، فيوجه الأغنياء مزيداً من الأموال للاستثمار. إذا فاضت أموال الأثرياء عن قدرتهم على الاستثمار فعليهم التوجه للأعمال الخيرية عبر وقفيات ينفقون على أعمال الخير من ريعها، وعلى الدولة أن تسهل لهم ذلك، وأن تراقبهم حتى لا تتحول الأوقاف على يدهم إلى مجرد سبيل للتهرب من الضرائب. الوقفيات الخيرية أسست جامعة القاهرة والهلال الأحمر ومستشفيات المبرة والمواساة والعشرات من المدارس، ونحن فى حاجة إلى إحياء هذه التقاليد، ووضع الإطار القانونى اللازم لتسهيل عملها وحماية أموالها. مشكلتنا جوهرها سياسات وتشريعات وليس نقص الموارد. لجنة مراجعة التشريعات التى شكلها الرئيس السيسى خطوة مهمة إلى الأمام. توجيه الدعم للمستحقين فقط أمر لا مفر منه. السيطرة على فساد البيروقراطية وسطوة الموظفين ضرورية لتشجيع الاستثمار وتخفيض تكلفته. إيجاد حل نهائى لشركات القطاع العام الخاسرة سيضخ طاقات إنتاجية جديدة فى الاقتصاد ويوقف نزيف تتحمله الدولة صاغرة تحت ضغط الابتزاز. تدريب الطلاب على ريادة الأعمال بدلاً من اللهاث وراء وظيفة حكومية عقيمة خطوة ضرورية. هذه مجرد عناوين لبعض السياسات المطلوبة.