مراكب عملاقة شقت النهر لعرض البحر عرفتها سواحل «المتوسط» بأشكالها المتميزة وتكوينها المختلف ما بين مراكب خشبية وأخرى معدنية صُنعت بمكان ليس ببعيد عن مجراها، مكان اكتسب شهرة واسعة رغم بساطته وبساطة أهله، إنها دمياط؛ حيث تزدان ضفاف النيل بقلاع صناعية لتصنيع وصيانة السفن. عمال بسطاء استطاعوا كتابة اسم مدينتهم بأحرف من نور فى صبر وصمود بشكل لافت للنظر يدفعك للدهشة، فرغم ما يعانيه أصحاب تلك المهنة فإنهم لم يفكروا يوماً فى التخلى عنها، آملين ألا يترك الصيادون أدواتهم مهما لاقوا من صعاب. بجوار أحد المراكب التى تخضع للصيانة والدهان، وقف جمال السيد زكى، أحد صانعى السفن، يقول: «أنا قضيت 30 عاماً فى مهنتى التى باتت جزءاً منى؛ فرغم معاناتى طوال حياتى فإننى لم أفكر يوماً ما فى تركها». بنفس يملأها الضيق وصوت متحشرج يقول «زكى»: «إحنا مضطرين نقفل أكل عيشنا عشان الكهربا اللى بتقطع يومياً 4 ساعات والمهنة أوشكت على الاضمحلال فى وقت رفض فيه صغار الشباب الإقبال على تعلم المهنة». يواصل الرجل الأربعينى: «على الدولة تخصيص أرض لبناء ميناء لتصنيع المراكب». بينما يقول محمد عوض عبدالله، 55 عاماً: «أنا شقيت وتعبت طوال 37 عاماً هى فترة عملى بتلك المهنة، وكل يوم حالنا فى النازل والصناعة تتدهور لعدم اهتمام الدولة بتوفير خامات التصنيع المطلوبة بأسعار جيدة، علاوة على تحكم التجار فى الأسواق، ومص دماء الصناع فى وقت لا نملك فيه تأميناً أو معاشاً». وفجّر «عوض» كارثة من العيار الثقيل، هى وقف الدولة منح تراخيص جديدة للمراكب منذ سنوات، فى الوقت الذى يقوم فيه ملاك بعض السفن ببيع تراخيص سفنهم مقابل 250 ألف جنيه. فى حين يصف وليد أبوالمعاطى، الذى لم يكمل عامه الأربعين، معاناته فى صناعة السفن قائلاً: «المهنة دى استنزفت صحتى ومالى وجهدى، ورغم كده مستمرين فى عملنا ولن نتراجع للخلف مهما عانينا من قرصنة وغرق، وأكتر حاجة بتزعجنا وبتأثر على شغلنا قطع الكهرباء الذى يكبدنا خسائر لا قِبل لنا بها». ويتذكر «أبوالمعاطى» أصعب الأوقات التى مرت عليه طيلة حياته عندما فقد أحد العاملين معه بسبب محاصرته بين مركبين أثناء وقوفه على الشاطئ فى انتظار استقبال المراكب. يخفى الحزن صوت الرجل الأربعينى للحظات ليستكمل حديثه قائلاً: «سأرفض طلب ابنى إذا قال لى عايز أبقى زيك. ولن أسمح لأبنائى بأن يلقوا نفس مصيرى فى الحياة». يختتم «أبوالمعاطى» حديثه ل«الوطن» قائلاً: «لم نرَ من الثورة سوى الخراب؛ فالبلد لم يتقدم بعد، نفسى أعيش أنا وأسرتى فى أمن وأمان، ولكن على ما يبدو الأمر بات مستحيلاً». ويطالب «وليد» بتشديد الإجراءات الأمنية لضبط عصابات سفن مراكب الصيد بعزبة البرج وتوفير إنقاذ نهرى لأصحاب السفن التى تتعرض للغرق بصفة مستمرة. فى سياق متصل، يؤكد جمال السيد أبوعظمة أن صناعة مراكب الصيد العملاقة التى حاكت فيها مصر العالم باتت مهددة، قائلاً: «الشغل ضعيف، مع إن مصر ممكن تكون أحسن بلد فى صناعة مراكب الصيد العملاقة، رغم أنها ما زالت تتبع الشكل التقليدى».