إن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها فى إطفاء نور العلم وحصر الرعية فى حالك الجهل. وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون فى مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم فى تنوير أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم. فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا فى البلاد وماتوا غرباء. وبعد توصيف ظاهرة الاستبداد وتشريحها، يوجه الكواكبى لقومه النداء التالى. يا قوم أعيذكم بالله من فساد الرأى وضياع الحزم وفقد الثقة بالنفس وترك الفرادة للغير. فهل ترون أثراً للرشد فى أن يوكل الإنسان عنه وكيلاً ويطلق له التصرف فى ماله وأهله والتحكم فى حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره، مع تسليف هذا الوكيل العفو عن كل عبث وخيانة وإسراف وإتلاف أم ترون أن هذا نوع من الجِنة به يظلم الإنسان نفسه؟ بلى «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (يونس، 44). *** (1) الفارس النبيل أحمد نبيل الهلالى يرسّخ الأسس القانونية لنقد الحكام سأخصص مقالاً لذكرى أحمد نبيل الهلالى، فارس المحاماة عن الحق والوطنية، التى تحل هذا الشهر، إلا أن اهتمامى هنا هو بمرافعته الثرية فى قضية الحزب الشيوعى المصرى، رقم 52 لعام 1980، التى قدم فيها مرافعة تعد من أقيم الأعمال القانونية، خاصة أنه قدمها من قفص الاتهام باعتباره متهماً فى القضية ذاتها. وقد أعطى للمرافعة عنوان: «حرية الفكر والعقيدة.. تلك هى القضية»، ونشرت فى كتاب تحت العنوان نفسه فى 1989. ويعنينى هنا فى الأساس تأصيله القانونى لحق وواجب نقد الحكام، مستفيداً من أحكام القضاء المصرى الشامخ حقاً. يقول الأستاذ فى تلك المرافعة. «واتهام رئيس الجمهورية بالخيانة أو العمالة لا يجب أن يصدمنا. واتهام حكومة معينة أو مسئول سياسى معين بالخيانة يعتبر من قبيل النقد المباح لسياسة الدولة. وهذا ما استقرت عليه أحكام القضاء المصرى». ولقد أرسى قضاؤنا العادل هذه القاعدة منذ العشرينات -من القرن الماضى- فقضت محكمة جنايات مصر فى 24-1-1925 ببراءة الدكتور محمد حسين هيكل من تهمة القذف فى حق رئيس الوزراء وزعيم الأمة فى ذلك الوقت سعد باشا زغلول -بجلالة قدره- باتهامه بالخيانة والممالأة مع الإنجليز والاتفاق سراً على ما فيه التنازل عن كثير من حقوق مصر. وقال الحكم فى أسبابه: «ولا ترى المحكمة فى تلك العبارة ما يمكن اعتباره ماساً بكرامة دولة رئيس الحكومة باعتباره من رجال السياسة المعرضة أعمالهم بحكم طبيعة وظيفتهم للنقد السياسى، ما دام هذا النقد لا يتناول من أشخاصهم. وحسبنا دليلاً على ما ذكر ما نراه فى أغلب الأحيان من النقد المر فى الجرائد الأجنبية خاصة برجال سياساتهم». كما قضت محكمة جنايات مصر فى 14-11-1947 ببراءة صحفى من سب رئيس الوزراء إذ قالت: «إن هذه الألفاظ لا يقصد منها السب بل هى نقد لموقف خصم سياسى إزاء سياسة البلاد ومصلحتها العليا التى توجب أن يدلى كل برأيه فى المسائل العامة التى تمس كيان الجماهير وأن الكاتب لا يحاسب على نظره وتقديره لموقف غيره من الرجال العموميين ما دام هذا النقد كان للمصلحة العامة ولم يقصد منه مجرد النقد». وقد رفضت محكمة النقض الطعن الذى رفعته النيابة العامة عن هذا الحكم. كما أن الفقه فى مصر وفرنسا قاطع فى أن نطاق النقد المباح يتسع كلما ارتفعت وكبرت مسئولية الشخص العام. فكبار الساسة حدود نقدهم أوسع كثيراً من حدود النقد المباح للموظف العام، بل يمتد حق النقد حتى إلى حياتهم الشخصية. وتزداد دائرة النقد المباح اتساعاً كلما زادت مسئوليات رجل السياسة وعلا منصبه فى الدولة. ويقول الفقيه بارتلمى: «لا جدال فى أن للشخص العادى الحق المطلق فى أن يترك وشأنه، ولكن فى ظل الديمقراطية عندما يقدم المرء نفسه إلى مواطنيه بأنه جدير بأن يحكمهم فلا أعتقد أن له الحق فى إقامة الحواجز والخنادق داخل وجوده، وأن يخط مناطق محرمة داخل شخصيته، فإن من يهب نفسه يهب نفسه بالكامل. وإن لدى المرء أموراً يرغب فى إخفائها فليس أمامه سوى أن يبقى فى حاله أو أن يقبل المخاطرة». وقضت محكمة النقض المصرية فى 6-11-1924: «أن الشخص الذى يرشح نفسه للنيابة عن البلاد يتعرض عن علم لأن يرى كل أعماله هدفاً للطعن والانتقاد، وأن المناقشات العمومية مهما بلغت من الشدة فى نقد أعمال وآراء الأحزاب السياسية يكون فى مصلحة الأمة التى يتسنى لها بهذه الطريقة أن تكون لها رأى صحيح فى الحزب الذى تثق به وتؤيده». كما أن رؤساء الجمهوريات فى الدول الديمقراطية لا يتمتعون بحصانة تميزهم عن سائر الأشخاص العامة وهذا ما يفرق رئيس الجمهورية المنتخب عن الملك الذى يتوارث العرش. لذلك فحق نقد رئيس الجمهورية وحق تناول اعتباره السياسى حق قائم مكفول. وجدير بالذكر أن الدستور القائم، ما لم تمتد إليه أيادى الحكم التسلطى الآثمة بالتعديل، ينص صراحة على الديمقراطية نظاماً للحكم وعلى صيانة حرية الرأى والتعبير. والدستور على وجه التحديد يعطى نواب الشعب الحق فى اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى، فكيف نعطى الحق للنائب ونسلبه من الأصل؛ أى المواطن؟