كانت نسبة المشاركة فى التصويت فى انتخابات الرئاسة المصرية 2014م أقل بكثير مما توقعه المراقبون (أو بالأصح مما روّج له الإعلام)، وحاول الإعلاميون بكل ما أوتوا من وسائل تأثير أن يدفعوا الناس إلى النزول، وتلا ذلك التهديد بغرامة 500 جنيه، ثم التهديد بالعرض على النيابة، وصاحبت هذا نداءات بالسيارات الجوالة فى الشوارع. وقد استسهل المحللون وصف الأمر بأنه تكاسل من الناس وعدم تقدير لمصلحة الوطن، واتهم بعضهم المقاطعين بالخيانة للوطن. ويتضح من حجم المقاطعة التحولات السريعة فى الرضا الشعبى، فالمصريون بعد الثورة يتسم مزاجهم بالتقلب والتحول السريع. يحتاج الرئيس لأن يدرك أن مساحة المعارضة ليست صغيرة (كما ادعى الإعلاميون الموالون)، وبالتالى لا يُستهان بها، وأنه يحتاج لأن يتعامل مع من انتخبوه ومن رفضوه ومن قاطعوا الانتخابات، حتى ينجح فى تنفيذ برنامجه. ومن المفيد أن تتم دراسات منهجية إحصائية لحجم المقاطعة (بشكل حقيقى موضوعى) وبيان خريطتها السياسية. ولما كان هذا الأمر غير وارد فى الأولويات والاهتمامات، وربما تكون هناك صعوبات منهجية فى تحقيقه، فسنحاول فيما يلى تقديم صورة تقريبية من خلال منهجية «الملاحظ المشارك»، لعلها تساعد فى تصور تلك الخريطة: 1 - الشباب عموماً (تحت سن 40 عاماً، خصوصاً الذكور) يشكلون كتلة تصويتية حوالى 59% (أى 30 مليوناً) لم يظهروا بشكل واضح، وكثير منهم يعيش ما يمكن تسميته «الاغتراب السياسى»، إذ يشعر بأن ما يحدث لا يعبر عنه، وأن جيل الكبار يسيطر على الموقف الآن ويعود بالسلطة الأبوية والسلطة العسكرية مرة أخرى إلى الحكم فى زمن مختلف تماماً (وهذا ما نلحظه فى ازدياد نسبة كبار السن). 2 - الشباب الثورى يشعر بغصة وهو يرى تشويه ثورة 25 يناير التى أشعل شرارتها، وضحى من أجل نجاحها وقدّم شهداء ومصابين، وكان يأمل أن يحقق من خلالها طفرة تطورية للوطن ولحياته وأن يجد مجالاً لتحقيق حلمه فى وطن يقدم لأبنائه العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإذا به يرى فى الشهور الأخيرة عودة لرموز الحزب الوطنى ولممارسات الحزب الوطنى، خصوصاً فى حملة المرشح صاحب الحظ الأوفر فى النجاح، إضافة إلى ذلك يرى هذا الشباب الثورى زملاء كفاحه وقادته وأبطاله قابعين فى السجون بتهم التظاهر السلمى، ويرى عودة الدولة البوليسية تحت دعوى الحرب على الإرهاب. 3 - التيار الإسلامى الواسع ذو القواعد الكبيرة فى كل أرجاء الوطن يشعر بغصة ومرارة وهو يرى نفسه مستبعَداً من الخريطة السياسية، بينما تقرب السلطة القائمة وتدلل التيارات العلمانية والليبرالية. والتيار الإسلامى له أطياف مختلفة ومتعددة بعضها يمارس العمل السياسى وبعضها لا يمارس، ولكن يجمعهم حلم إقامة وطن على قواعد حضارية إسلامية، وهذا التيار بعضه يتعاطف مع الإخوان، وبعضه لا يتعاطف معهم، بل ربما يرفضهم، ولكن فى النهاية هو يجد نفسه منبوذاً من السلطة القائمة، ومن السلطة المقبلة ولا يجد المرشح الذى يعبّر عن أشواقه وأمنياته ومعتقداته، بل يرى تشويهاً واتهاماً للتوجهات الدينية بالإرهاب، ويرى إغلاقاً لقنواته وتضييقاً على قادته ورموزه، وتجاهلاً لحجمه وتأثيره فى الشارع المصرى، ويرى عداءً شديداً من الإعلام الرسمى والخاص الذى يتربّع على عرشه تيار أحادى لا يرحب بالفكرة الدينية فى كل تجلياتها ويتهمها بالرجعية والظلامية. 4 - الإخوان، وهم يقاطعون كل ما يحدث بعد 30 يونيو لعدم اعترافهم بشرعيته، ويتمسكون بالدكتور مرسى رئيساً شرعياً للبلاد، ويضغطون على أعصاب النظام فى الداخل والخارج لاسترداد شرعيتهم، ولديهم عداء وثأر ودم مع النظام القائم والقادم، وهم يعيشون أزمة وجود، خصوصاً بعد توصيفهم بالإرهاب ومطاردتهم فى الداخل والخارج واعتقال أعداد كبيرة منهم، وإصدار أحكام كثيرة بالإعدام على قادتهم وناشطيهم. 5 - فئة العلماء والمثقفين الذين يرون فيما يجرى نوعاً من الحشد الشعبوى البدائى والترويج السياسى والتزييف الإعلامى وتقديس الفرد الزعيم البطل الملهم، والبعد عن المنطقية والموضوعية والواقعية فى رسم مستقبل البلاد، ويرون أن ثمة ردة تطورية ونكوصاً سياسياً يعود بالمجتمع إلى حقبة الستينات ويحرم البلاد من القفزة التطورية التى حلم بها الجميع إبان ثورة 25 يناير العظيمة التى أبهرت العالم أجمع. وهذه الفئة بحكم تكوينها لا تنخدع بالترويج السياسى والتزييف الإعلامى، بل تتأذى من الممارسات البدائية التى يمارسها أعضاء الحزب الوطنى وممالئوهم الظاهرون بقوة على الساحة السياسية والمحيطين بشكل خاص بالمرشح القوى فى انتخابات الرئاسة، ويرون أن الأمور تتجه نحو العسكرة ونحو عودة الدولة البوليسية. كل هذا يبعد فى وعيهم صورة الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة التى حلموا بها بعد الثورة وبعضهم كافح من أجلها سنوات طويلة. وهذه الفئة بوجه خاص ربما تتأذى بمظاهر الطبل والزمر والرقص والمبايعة والتفويض والمبالغة فى التقديس والتعظيم للسلطة وللفرد وترى فى ذلك استغلالاً لمشاعر البسطاء واحتياجاتهم. هؤلاء جميعاً لم يذهبوا إلى لجان الاقتراع ولم ترهبهم الغرامة ولم تؤثر فيهم نداءات المذيعين، ولم يفعلوا ذلك تكاسلاً، وإنما فى الأغلب رغبة فى توصيل رسالة وإثبات موقف، ويحتاجون من السلطة المقبلة ضرورة التعرف عليهم والتحاور معهم عسى أن يصل الجميع إلى حالة توافق على الحد الأدنى من المصلحة الوطنية رغم الخلافات، فإذا لم يحدث ذلك فإن الرئيس الجديد ربما يواجه مشكلات جمّة أمام هذه الكتلة التصويتية المستعصية.