كنا فى حاجة إلى أزمة فيلم «حلاوة روح» لنكتشف أن عقل هذه الأمة فى خطر! وكنا فى حاجة إلى كل هذه الضجة لنعيد ترتيب أولوياتنا ونراجع حساباتنا ربما نفيق لأنفسنا ونكتشف حجم خواء واهتراء السلطة وكمّ ضياع وفراغ النخبة! وأنت إذا سألت أى مواطن بسيط فى هذا البلد عن همومه وأزماته الطاحنة سيحدثك عن الأمن والبطالة والأسعار والكهرباء.. ولن يشكو لك من أفلام السبكى أو أن الإبداع فى خطر وحرية التعبير فى أزمة، سيقول لك على العكس إن البلد يغرق فى بحر اللغو والجدل، وإنه يعيش حالة سيولة سياسية وإعلامية من فرط حرية التعبير والتهليل والتطبيل! وجاءت أزمة فيلم حلاوة روح والضجة الكبرى التى طغت على حوارات الرئاسة ومعارك الإرهاب وفوضى الشوارع والانهيار الأمنى والاجتماعى والاقتصادى الذى تعيشه البلاد لتؤكد أننا نعيش فى غيبوبة فكرية وشيزوفرينيا عقلية، لأن عرض الفيلم لم يكن ليزيد أو ينتقص شيئاً مما نحن فيه من انهيار أخلاقى وفساد فنى، ولأن وقف عرض الفيلم لن يحمى المجتمع من أى انحراف أو انحلال؛ لأن المجتمع انحل وتفكك وضاعت قيمه وتشوهت ملامحه منذ سنوات طويلة بفعل التعليم المنهار والأسرة المدمرة البائسة المشغولة بالبحث عن رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز! وإذا كان السيد رئيس الوزراء منزعجاً من تدهور أخلاق المصريين وخائفاً على القيم والسلوكيات، فليبدأ من الإعلام المفتوح على مصراعيه لكل أشكال البذاءة والانحطاط السياسى، الطعن والتشويه والتسريبات ومستنقع المؤامرات الذى تعيش عليه طحالب إعلامية أفسدت وسممت حياة الناس، ونشرت الخوف والكآبة والشكوك فى كل شىء! وإذا كان سيادة رئيس الوزراء يرى أن هيفاء وهبى تهدد المجتمع، فهناك أكثر من هيفاء تمارس الفحش السياسى على شاشات التليفزيون، وقد شاهد ملايين المصريين قنوات خاصة ومذيعين محترمين وهم يستضيفون الفاضلة سما المصرى وهى تتحدث فى السياسة وتمارس أرقى أنواع الاستربتيز الوطنى! وللأسف فإن هناك أشباه رجال تحولوا إلى زعماء فى الإعلام يفوقون سما المصرى وأبطال السبكى ويقومون بأدوار أكثر خطورة وأشد فتكاً بكل القيم والمعايير والأخلاقيات التى يخشى عليها رئيس الوزراء! وأنا أقول للمهندس إبراهيم محلب، الذى اختار أن يدخل عش دبابير المثقفين بقدميه، إذا أردت أن تمنع فامنع كل شىء، وطبق القانون على الجميع، ابدأ من المدرس المنحرف، وعاقب المتحرش ونظّف حكومتك وأجهزتك وهيئاتك ومحلياتك وهيكلك الإدارى من الفساد وخراب الذمم وقلة الأدب.. يا سيادة رئيس الوزراء، ابدأ ببيتك.. اقدر أولاً على ستة ملايين موظف لا يعمل ولا ينتج أكثر من خمسة بالمائة منهم والباقون هم عبارة عن نفايات عصر التخمة الإدارية ورشوة الخريجين والبطالة المقنعة! وابدأ يا باشمهندس بدعم الثقافة وتشجيع الموهبة والإبداع، وادعم سينما الشباب والأفكار الجديدة، قاوم سينما البذاءة بسينما الثورة والتغيير، واجه الفكر بالفكر والثقافة بالثقافة.. ولم يحدث فى التاريخ أن نجح رقيب فى منع أى شىء، لا فيلم مبتذل ولا كتاب معارض للسلطة.. الحذف والمنع هما وقود الانتشار السريع لأى فكر وفن.. والأمثلة لا تُعد ولا تحصى! وربما لا يعرف رئيس الوزراء أن الذين نصحوه بوقف عرض الفيلم أغرقوه، وفتحوا عليه باب جهنم! فالمنع لا بد أن يتلوه منع لكل الأعمال المماثلة.. وسوف يُفتح باب المقارنات.. واشمعنى منع هذا وترك ذاك! وما دامت الحكومة بجلالة قدرها أقحمت نفسها وتحولت إلى رقيب وإلى بديل للقانون والأجهزة المختصة، فإن الأزهر سيرفع هو الآخر سيف المنع، وبعد «نوح» و«حلاوة روح».. سوف تكرّ المسبحة! ثم سيدخل معمعة المنع والحظر كل من هب ودب، وكل من يرى فى أى عمل فنى مساساً بمنظومته.. وعندها سوف يتحول المجتمع كله إلى جلاد ورقيب، وليذهب الفن والخيال والإبداع إلى الجحيم! والمصيبة أن مشكلة رئيس الوزراء لن تنتهى باستسلامه لضغوط «الأخلاقيين» الذين نصحوه بمنع الفيلم.. ولكن المشكلة تبدأ إذا ما عاد الفيلم بأمر القضاء وبإقبال جماهيرى ساحق! عندها سيكون حاله مثل حال عبدالفتاح القصرى. ومعلش يا حنفى.. تنزل المرة دى.