بكاء الطفل الرضيع، الذي لم يكمل عامه الأول، لا يتوقف، فهي لغته الوحيدة لنداء حضن أمه، لتحمله بأحد ذراعيها وفي الأخرى حقيبة السفر، راحلة إلى بيت أبيها، بعدما أخذت قرار الانفصال، وتركت "البرنس" شريدا وسط أحلام يحاول العبور إليها، ولكن الاكتئاب وجد مسكنه في روحه، والدواء لا يشفع، فكل ما يفعله أنه يمدد مدة عقد الألم في قصر البرنس الروحي، ليرث الرضيع، وقبل أن يدرك معاني الدنيا، أو يتمتم لسانه بهمهمات غير مفهومة، يحاول أن يتحسس بها نطق النصف الأول من كلمة "ماما وبابا"، وحدة أبيه، ليتفتح على دنيا متقلبة مكبوتة أحزانها في صدره، تظهر هادئة كملامح الأم البريئة، و غادرة في صراعات أبيه، التي يقرأها على وجهه في كل زيارة له، كما كتبت في سيناريو جديد مسروق، تملكه وسكنت كلماته وملامح شخصيته فيه. هكذا صار يعيش بين عالمين السكون في حضن أمه، وهوس دنيا متقلبة يقرأها في عيون أبيه المجنونة بشخوص الحياة، وروحه التي خطفتها نداهة الإبداع، فيجده مرة "رجل مهم" يتدرج في السلطة، ويجمع الألقاب بين "البيه" و"الباشا" حتى يمتلكه جنون العظمة ويصير "إمبراطورا"، فيجد كل الشخوص أمامه إلا شخص أبيه، وهنا يسطر القدر كلمات جديدة في حدوتة الطفل الشقية، فقبل أن يكمل عامه العاشر، فارقت روح أمه الهادئة جسدها، وصعدت لبارئها، ويرقد الجثمان تحت الثرى في قبر العائلة، يزورونه كلما شاءت الظروف أو جاءت مناسبة، أو جاورها مبعوث جديد منهم للعالم الأخر، ليوثق الطفل يتمه، الذي عاشه في 9 سنوات مضت في الأوراق الرسمية بشهادة وفاة الأم، وينتقل لرعاية جدته، مثلما عاش أبيه على الشاشة في كنف "أمه كرمات"، سعدا باسمه ويتيما في لقبه. رغم أن حياة الطفل الجديدة برعاية الأم البديلة "جدته"، إلا أنه اقترب أكثر من عالم الأب، فيصطحبه معه تارة في رحلة إلى البلاتوه، وأخرى في ترابيزة سيناريو، وثالثة في ندوة فنية، ليتشرب منه حب الصنعة، ويبدأ هوسه بها، ويستكشف فيه مشاعر حب جديدة، يشاركه فيها جمهوره، وهو حب الموهبة، ليقرر أن يعيش مع أبيه في عالم فرضه القدر، وتصير دنيا الأب والابن عالما سفليا كعالم الجان، تظهر منه بعض أمنيات ومشاعر تظهرها صور كلما أرادوا مجيأنا لدنياهم، وينضج الصبي ويقتحم مع الأب أرض الخوف، ويفخر بالبطل، وينال لقب ابن معالي الوزير، ووسط سعي الأب وهروبه إلى القمة، يكبر الطفل ويصير شابا ويعيش في قصر فخامة الرئيس، ولكن الدنيا الوهمية، التي خلقها الأب ليملأ بها حياة اليتيم، لم تدم على حال، وقبل أن يكمل اليتيم عام الرشد، جاءت لكمة موجعة من القدر. يصاب الأب بلعنة المرض الفتاك، ويبطل مفعول مسكن الألم، الذي حباه له والده في عالمه الخيالي، ويراه أمامه على فراش الموت جسدا مصه المرض وغربله سوسه، لا حول ولا قوة، ولكنه ما زال يشهر بما تبقى منه سلاحه الوحيد في الدنيا، الجن العاشق لحليم، الذي لا يزال يعزف على أوتار قلبه المتنهد بمرضه، والمتمسك بما تبقى من نبضات فيه بالظهور في شخصه، وهنا ينشطر الابن نصفين، الأول موجوع، والآخر متوهج بفرصة الظهور الأول أمام الكاميرا، ليمضي العقد مع النداهة، ويخطفه سحرها، كما خطفت أبيه بريئا، وشدت روحه إلى نهاية، وقف الجميع يصفق لها والدموع تزرف من أعينهم، ورغم العقد الموقع لوريثه، إلا أنه استسلم ليتمه الملازم له من المهد. عاش عزلة 3 أعوام بفراق الأب، قبل العودة لعالم يغريه فيه سحره للقضاء على عزلة وفراغ يصارعها، وهو أعزل من أي سلاح، فحياتها متوالية بقبضات موت من يحبهم، ليتوهم أن ميراث أبيه من العيش وسط شخوص الدنيا سيلهيها عن وحشتها، ويقرر أن يخرج لسانه لها وهو بهيئة البلياتشو، ولكن وراثة اسم الموهوب فقط، لم تشفع له عند النداهة، بل أن الاسم تحول للعنة عمقت جرحه، ولكنه ظل يصارع ويتلون كفراشة تبحث عن بستان تؤنث أزهاره وحدتها، وتحيا على شريط ذكريات، يحن فيه لأحضان صاحبة الوجه الملائكي، ويبحث عن حنانها كواحد من أصابع كف القمر، ويحاوب أن يعيد أمجاد الأب في كنز مفقود مع واحد من أصدقاء رحلته، ولكن القدر قرر أن يكون عطوف به من وحشة الدنيا، وينقذه من صراع دام أكثر من 3 عقود من العزلة، ويعوضه عن يتمه، بسكن أسري افتقده في الدنيا لسكن أبدي، قبر تلتف فيه الساق بالساق، وتعانق فيه روحه بالسماء أرواح العاشقين، تاركين أرض الخوف إلى عوالم سماوية. 35 عاما من العزلة.. هكذا عاش هيثم أحمد زكي.. قصة من رحم الحياة تستحق أن تتجسد في عمل فني، والمفارقة أن أجدر من يجسدها رحل عنا بجسده وبقيت روحه في أعماله نراها يوميا على الشاشات، لكنها تلك الروح المعجونة بماء الموهبة لم تصور وتبعث في هيئة بشر إلى الآن، هو أحمد زكي نفسه.