خيري محمد بدوي. عامان من الرحيل.. أبي يا ضهري وسندي ومصدر فخري.. لن نتخانق كالعادة خناقة ومشاكسة هدية عيد ميلادك التي أصر أنا أن تختارها بنفسك وتصر أنت إنه مفيش داعي وإنه أنا هديتك. رأيت بعيني شجاعتك وأنا طفل وأنت تقتحم حريق في بيت جيراننا وتنقذ ابنتهم التي اشعلت النار في نفسها.. رأيتك وأنت تسحب بطانية من بيتنا وتهب لنجدتها وتصل إليها وسط النار المشتعلة ثم تخرج بها ملفوفة في بطانية وتجري في الشوارع لتستوقف تاكسي بينما لازمك حريق في جسمك من أثر عملية الانقاذ تلك، رأيته واضح يوم غسلك يا حبيبي.. رأيت قوتك وأنت تنقذ رجل انقض عليه جدار فأقمته بعزم جسدك كله حتى نفد من تحته الرجل بجلده.. رأيت رقة دموعك وهي تتلألأ وقلبك وهو يرتعش كل مرة تراني على شاشة التلفزيون أو حين يصدر لي كتابا.. رأيت حنية عينك وهي تلمع بالدموع مع كل حضن تحضنه لحفيدك مهند.. رأيت على هاتفك رقم أمي وأنت تسميها (حبيبتي) يا رومانسي.. يا قوي .. يا شجاع.. يا حبيبي .. عيد ميلادك في الجنة يا أبي. أجمل مشهد رومانسي رأيته في حياتي كان بين بابا وماما.. ليلة وفاة بابا، أمي تشرب الشاي بتاعها راح حبيبي الله يرحمه قالها هنقسم الكوباية دي أنا بق وانتي بق.. هي ضحكت وراسها مال، وقالت وعينها بتزغرد: موافقة. وظل هو يشرب بق وهي تشرب مطرحه بق. كأنه حبيبي عايز آخر موضع لفمه يلمس آخر موضع لفمها، مشهد حلو زي مشاهد نهاية الافلام الرومانسية، فكرني بسيدنا النبي لما طلب من السيدة عائشة بإيماءة عين وهو في سكرات الموت أن تلين له سواك بريقها، فكان آخر شيء دخل إلى جوف النبي هو ريق عائشة. تقول عائشة : كان من فضل ربي عليّ أنه جمع بين ريقي وريق النبي قبل أن يموت. في الصباح حين مات أبي كانت أمي تهذي وتقول كلاما قريبا من عائشة: قسم معايا العمر كله وآخر كوباية شاي يا حبة عيني. أمي وأبي .. بقوا شبه بعض بالرغم من بياض أمي وسمار أبي وكونهما غير أقارب: أمي حين طلب أبي يدها للزواج ، كانت تلعب شرق الجسر فى بلدتها بالصعيد .. خرجت أمها لتناديها ، لكن أمي رفضت أن تغادر رفقاء اللعب ، وحين ألحت جدتي فى الطلب ، رضخت أمي غاضبة ، وحاولت جدتي ترضيتها فوعدتها بأنها ستشتري لها حلاوة شعر ، التى كانت تعشقها أمي، إذا ما طست وجهها العرقان من أثر اللعب والجري، وقابلت العريس الذى يجلس مع جدي فى المندرة . لكن أمي التى كانت فاجأتها نقط الدم الصغيرة منذ أيام قلائل ، بينما كانت تلعب أيضا ، وأخبرتها أمها أنها الإكس ، وعليها أن تتوقف عن اللعب مع الصبيان من الآن فصاعدا ، فضلت واختارت اللعب على العريس والحلاوة الشعر ، لكن حين ذكرت جدتي اسم أبي العايق كزوج محتمل ، يجلس فى المندرة .. يشرب دور الشاي الثاني الخفيف ، وافقت أمي على طس وجهها بالماء ، ومقابلة العريس العايق ، الذي كان يفرق شعره المسبسب على جنب ، ويرمي على كتفه شال أبيض .. ناصع البياض . دخلت أمي وسلمت ، وحين ضحك لها العريس ضحكة سكر، أظهرت شاربه المحفوف بعناية فائقة ، وافقت . ثم عادت للشارع لتكمل اللعب مع أقرانها من العيال. مهند ابني مواليد شهر نوفمبر مثل أبي والفارق بيني وبين ابني 29 عاما كما هو الفارق بيني وبين أبي الذي عاش بين أب وأم منفصلين مثل مهند .. فأنا الشخص الوحيد الذي نجا من تلك السنة العائلية أو المذبحة العائلية إن شئت الدقة فجدي عاش بين أب وأم منفصلين وكذلك أبي وكذلك مهند ابني وأفلح أبي رحمة الله عليه في أن يجعلني الشخص الوحيد الذي ينعم بدفء حضن أبيه وأمه معا فيما عجزت أنا عن فعله مع ابني .. لذلك أحاول أن أحاكي أبي في علاقتي بابني وإن كنت لا استطيع أن أكون جزء من مليون جزء من مجرة عطفه وحنانه. وحين أفسر حنية أبي الكبيرة أجد تلك الحياة المشتتة التي عاشها بين بيتين سببا كبيرا في إصراره على منح أبنائه الأمان والعطف والحنان الكافي فهو لايريد أن نعاني مثلما عانى هو فإن كان هناك شيء من الحنية في علاقتي بابني مهند فقد تعلمت ذلك منه لاشك، فهذه رحمة يضعها الله في قلوب العباد وقد وضعها الله بسخاء في قلب أبي ولهذا أتفهم الآن لماذا كان يؤكد على أن مهند مسكين رغم شقاوته البادية لأنه لم يتربى بين حضن أبيه وأمه.. هو كان يرى مهند مثله فيتعاطف معه أشد التعاطف.. هو كان يعرف وجعه لأنه عانى مثله من قبل .. هما في الهم-جد وحفيد- سواء. في الحقيقة أنا من هؤلاء الأبناء المدينون لآبائهم بكل شيء في حياتهم، حتى الكتابة كان أبي سببا فيها فهو الذي كان يشترك لي اشتراكا سنويا في مجلات الأطفال حين كنت صغيرا وكان يستحثني على المشاركة في المسابقات الفنية والأدبية ويأخذ ما أكتبه أو أرسمه ويضعه في ظرف ويذهب لمكتب البريد على قدميه ليضع أعمالي الفنية المتواضعة في البوستة بعد ذلك أجد مساهماتي الفنية والأدبية الصغيرة منشورة في مجلات الأطفال مثل مجلة ماجد وغيرها، وكان ينكز معي على ركبتيه في الأرض حيث جلستي المفضلة لنبحث عن فضولي تلك الشخصية في مجلة ماجد التي كانت تختبئ داخل طيات الملابس أو في ذيل الصفحة أو بين أوراق الشجر، ويحتفظ بالأعداد التي بها مشاركاتي كما يحتفظ لي بالكراسات أم نجوم كما كان يسميها وهى الكراسات المكدسة بالنجوم التي كنت أحصل عليها تقديرا لشطارتي في الصفوف الأولى الإبتدائية. كلما اشتقت إليك أحضن رف ملابسك فأجد فيها حضن حقيقي، وأبكي بين ذراعيها. مفقتش من غيابك يا أبي لأني لا زلت ثملا عاطفيا بك. من ساعة وفاة بابا وأنا متشعلق جدا بكبار السن حد الهوس، أعشقهم أكثر عن ذي قبل، وأراقبهم عن حب، تعجبني خطواتهم البطيئة الحذرة وهم يمشون وجلين، وأتحين الفرص لأخلق حوارا معهم عن قرب فلربما أطالع فيهم وجه أبي. أبويا آخر أيامه كان غير قادرعلى رفع قدميه، ولو حتى قليلا ليتسنى له لبس الشراب، فكنت أوطي لأساعده، فيربت على كتفي ويتسند علي لئلا يختل توازنه، وأتسند على ذاكرتي فتسعفني على الفور وأتذكر حين كان يجلسني في حجره بينما أمرجح رجلي مرحا -وهو يلبسني شراب المدرسة- كي لا يفلح في مسكها، ويتظاهر ببذل جهود خرافية ومحاولات عدة يدعي ويوهمني فيها بعدم قدرته على قفش قدمي الصغنون فيمنحني فرصة مش بطالة للعب. ولما يشعر أن الوقت أزف وسيفوتنا معاد المدرسة التي لا باص لها ولا جمل وإنما دراجة.. هي عجلة أبي الرالي، يكون ذلك إيذانا بإنتهاء زمن اللعب فيلبسني فردة من الشراب بينما يقبل القدم الأخرى، وأكون أنا تنبهت بمفعول هذا الكافيين الأبوي بما يكفل أن أذهب للمدرسة نشيطا سعيدا مقبلا على الدرس. والذي نفسي بيده يا أبي لهما أثقل في الميزان من جبل أحد. أنا مريض الآن بالكحة التى لايطيق بها صدرى وكبير وألبس حذاء فى قدمي وأبي رحل عن الدنيا ولن يستطيع أن يفعل ما فعله حين كنت طفلا .. أتذكر تلك المرة الوحيدة التى نزلت فيها الشارع حافيا لا أضع قدمي في حذائي الأبيض ، الذي جلبه لي أبي من باتا ، لأن أبي شالنى ، وجرى بي في الشارع ، بحثا عن تاكسي ، يقلنا لأقرب مستشفي أو عيادة ، لما ألهبت الحمى جسدي الصغير . كان أبي يلفحني على كتفه ، وهو يسند رأسي الصغير بيده ، ويهرول في الشارع ، ساعيا في هرولة بين الرصيفين ، يحاول أن يجد أي سيارة ، كنت أحس بخروشة صدره وأنفاسه المتقطعة والكحة ، التي يحاول كتمها حتى لا تزعجني . تركنا أمي في البيت تبكي ، ورفض أبي نزولها معنا ، كانت أمي قد أوشكت على الولادة ، لذلك خاف عليها أبي من الحركة والشحططة . لعابي كان يسيل على كتف أبى لما رجعنا إلى البيت بعد أن علق لي الطبيب المحاليل ، وأخذت أكثر من حقنة حتى هدأت الحرارة ، لأن اللبوس أصبح غير مجد في هذه المرحلة ، وجدت أمي مفحوتة من العياط ، فربت أبي على كتفها قائلاً : متخفيش ما هو زي الجن آهو ، لحظتها انخرطت أمي في نوبة جديدة من البكاء ، وقالت لأبى ، وهي تقبلني : كنت خايفة ليموت . ساعتها يخرج أبي سيجارة سوبر طويلة ، ويقول مبتسماً : هيعيش وربنا هيرفعله اسمه وذكره. كنت صغيرا، أخرج مع أبي الذي يقول شكرا لكل واحد، يشتري لي من بياع غزل البنات الغزل يعطيه الفلوس ويقول شكرا.. نركب تاكسي يحاسب السائق ويقول شكرا.. صاحب الكشك يفتح لي زجاجة البيبسي يعطيه نقودا ويقول شكرا.، يدبج الخطابات الرقيقة للغائبين المسافرين ويكتب على الظرف بخط جميل شكرا لساعي البريد، لحد كده تمام .. لكن إننا ننزل من القطار واحنا مسافرين الصعيد فيقول للقطر شكرا.. أقول له يا بابا أنت بتقول للقطر شكرا. يرد بحنية: مش ربنا جعله سبب في توصيلنا. أبي علمني أن أقول شكرا لربنا وللناس وللجماد.. علموا أولادكم يقولوا للناس شكرا ولأمهاتهم ألف شكر. فجأة واحنا قاعدين بنتفرج على التلفزيون لقيت ماما عينها بتسح دموع من غير صوت جريت وحضنتها وأنا مش فاهم في إيه، لقيتها ماسكة شريط بروفين، بنت أختي البيبي كانت جابته من درج وحططته في حجر جدتها، ولما ماما شافت نص الحباية اللي بابا الله يرحمه سايبها في السلوفانة ومتبت عليها عشان متقعش من الشريط لسه موجودة افتكرته فحنت وبكت، وفي وسط دموعها تبتت بإيدها على نص الحباية بالسلوفانة عشان تتأكد إنها لسه مكانها زي ما بابا سبها. حسيت وهي بتعمل كده وكأنها بتبت على مكان إيده هو الله يرحمه. ماما من ساعة ما بابا اتوفى وهي تحسها تايهة وفاقدة اتزانها ومهما عملنا عشانها برضه ناقصها حاجة..الآن فهمت دلوقتي يعني إيه الراجل الجدع يكون سند للست بتاعته ولما يمشي تفضل حيطتها مايلة، عشان اللي كانت ساندة عليه راح. عزيزي الرجل لو عندك امرأة تحبك لا تخذلها بالله عليك وخليها ساندة عليك.