"سوف نحول الفيروس إلى صباع كفتة ونقدمه للمريض ليتغذي به، وهذا هو قمة الإعجاز العلمي" .. هكذا قدم لواء في الجيش المصري جهازا لا مثيل له في العالم يكتشف وجود فيروسات الإلتهاب الكبد الوبائي والإيدز ثم يدمرها ويحولها إلى مواد غذائية يستفيد بها الجسم .. ولكي أدخل في صلب الموضوع مباشرة و دون مواربة، فأنا كمشتغل بالبحث العلمي أرجو من سيادة المشير السيسي أن يأمر بإيقاف تلك المهزلة فورا وإحالة كل من ورطوا الجيش المصري في مثل هذا الهراء إلى التحقيق بتهمة الإساءة للوطن و لقواته المسلحة العظيمة. والأن إلى شئ من التفصيل .. لا بد أن نعرف أولا أن وظيفة العلم في المجتمعات هي إنتاج المعارف الجديدة .. ويمتاز العلم عما دونه من الطرائق الأخرى بصرامة منهجه في الفحص والتمحيص على نحو يجعل ما ينتجه من معارف موثوق بها ومعول عليها. وحتي تكون المعرفة الجديدة علمية لا بد أن تتحقق فيها ثلاثة خصال .. أولها أن تكون قائمة على أسانيد منطقية رصينة مقبولة لدى المجتمع العلمي وثانيها أن تكون نتائجها قابلة للتكرار وثالثها أن يكون الإستنتاج العام قابل من حيث المبدأ للدحض وإثبات الزيف إن كان خاطئا. لنعطي مثالا توضيحيا .. هب أن شخصا ما أدعى أنه إخترع سيارة لا تحتاج إلى وقود. لكي يجتاز هذا الإدعاء المرحلة الأولى من التدقيق العلمي لا بد و أن يشرح هذا الشخص وبوضوح الأساس العلمي لذلك الإكتشاف، كأن يبين مثلا أن هذه السيارة تعمل بالطاقة الشمسية مع تفاصيل التركيب الدقيق للخلايا الضوئية وكيفية عملها ومدى كفاءتها، على نحو يجعل التصميم العام قائما على مجموعة من الحقائق العلمية المنطقية والمقبولة. ولإجتياز المرحلة الثانية من التدقيق، لابد أن تكون التجربة قابلة للتكرار بمعنى أن تعمل هذه السيارة بنفس الطريقة في أي مكان في العالم عند تجريبها وألا يكون تشغيلها قاصرا على مختبر واحد في بلد واحد لما يلقيه ذلك بظلال من الشك على مصداقية العمل. وأخيرا يجب أن يتم إختبار فرضية زيف الإدعاء بمجموعة من التجارب العيارية. على سبيل المثال، يتم نزع الخلايا الضوئية من السيارة ثم محاولة تشغيلها لإثبات أنه لا يوجد شئ آخر أخفاه الباحث يمد سيارته بالطاقة. أو فحص مستقل لقدرة هذه الخلايا الضوئية على امتصاص ضوء الشمس وتحويلها إلى طاقة كهربية. فإذا إجتاز الإكتشاف كل تلك الاختبارات الصارمة وأجازها المجتمع العلمي من خلال النشر العلمي الجاد، عندها وعندها فقط يمكن إعتبار هذا الاكتشاف اكتشافا علميا يمكن التعويل عليه. الأصل في التدقيق العلمي هو التشكك وعدم التصديق والإعتماد التام على الأدلة المنطقية القاطعة كهادٍ ومرشد قبل القبول والتسليم. البحث العلمي عملية شاقة وطويلة و بسبب صرامتها و رصانتها أتت بالعلاجات الناجعة والمكتشفات العلمية الجبارة كالطائرات والسفن وأجهزة الحاسوب والهواتف النقالة وما إلى ذلك .. على عكس الخرافات والخزعبلات التي لا مرضًا داوت ولا بنيانًا أعلت. ولا يَعتد المنهج العلمي في الفحص والتمحيص بسيرة الباحث أو مكانته في المجتمع أو حتى مكانته العلمية. أي أنه لا حصانة لأحد عندما يخضع الأمر لصرامة التدقيق العلمي، فالبينة على من أدعى، وليس مطلوبا من المجتمع العلمي على الإطلاق أن يجدد مبررا لاكتشاف غير ذي سند من البراهين العلمية، إعتمادا على ثقٍة في شخص الباحث أو مكانة المؤسسة التي ينتمي إليها. وإنما هي مسئولية حصرية على ما من أدعي بأن يأتي بدلائله وحججه ليعرضها على المجتمع العلمي بما تعارف عليه من وسائل. ثم أن عِظم الإدعاء يستوجب عِظم الدليل، بحيث لا يُقبل التدليل على إكتشاف خارق بأدلة ركيكة متهافتة. البحث العلمي لا يقوم على الكفتة يا سيادة اللواء عبد العاطي .. ولو صدق ما تدعيه من إمكانيات خارقة لهذا الجهاز فهذا يعني بالضرورة أنك وفريقك قد أتيتم أمرًا جلالا، و قمتم باكتشاف نظريات جديدة في علوم الفيزياء الحيوية والكيمياء تستوجب التكريم الدولي. وأنا بالطبع لا أرفض تلك الفرضية، إلا أنها تستوجب عليك أن تعرض اختراعاتك على المجتمع العلمي بكل وضوح لفحصها والتدقيق فيها بالطرق المتعارف عليها، ثم تترك للمجتمع العلمي المتخصص الحكم على إنتاجك العلمي بعيدًا عن المؤتمرات التلفزيونية، وبعيدا عن الإرهاب والكباب أيضا. ولقد عملت زهاء الخمسة عشر عاما في مؤسسات علمية عالمية منضبطة، وإستنادا إلى تخصصي العلمي أقرر أنه لا يوجد أى سند علمي على الإطلاق لمثل هذا الجهاز، لا علي سبيل اكتشاف الفيروس أو علاجه وكل ما رُوي ونُقل ونُسب وتُتداول حول هذا الجهاز أشبه بترهات من يدعون علاج السرطان بالحلبة و مرض السكري بالجنزبيل وما إلى ذلك من أمور لا يلقى لها المجتمع العلمى بالا ولا تؤخذ على محمل الجد. وأشارك الدكتور عصام حجي المستشار العلمي للرئيس في ما مضى إليه بأن الإعلان بهذه الطريقة عن هذا الجهاز هو فضيحه لمصر تستوجب حساب من قام بها حسابا عسيرا. كما أحييه على أمانته العلمية وشجاعته وإستعداده لتحمل الأذى من فلول المطبلين والراقصين في مواكب الكذب والنفاق. لم يخطئ الدكتور عصام حجي أبدا وانما قام بواجبه كمستشار حفيظ عليم و قوي شجاع. وأنا على ثقة كاملة أن سيادة المشير السيسي الذي أبدي بسالة في الدفاع عن مصر حين أنقذها من مخالب السوء، سوف يتكفل بحماية المستشار العلمي للرئيس حتى لا تكون الرسالة مفادها أن للأمانة والكفاءة في مصر ثمن فادح يشقى به الشرفاء في حين يهنأ المنافقون بنفاقهم. هل سنظل نمضي في نمط حياة ينطوى على إهدار لقيم العمل الجاد وعرق الجبين وإعلاء لصغائر الركاكة والتفاهة؟ هل ستكون مصر بعد ثورتين بوابة مشرعة للكفاءات ووجهة جاذبة للاستثمارأم جحيما من الجهل والتخلف طاردا لقيم الجمال و النبل والأصالة ؟ أرجو أن تكون هذه الأسئلة ومثلها تجول في خاطر الرئيس القادم لمصر . * أستاذ الفيزياء الحيوية المساعد بجامعتى القاهرة وجنوب إلينوي