5 – وهاكم الأخطاء العمدية : وهى الأخطاء الناشئة عن كون العلم نتاجا للإنسان ، يخضع لما يسيطر على الإنسان العالم - في بعض الأحيان - من ضعف خلقي كحب للظهور ، أو خراب في الذمة ...الخ . وإن المرء ليستغرب _ أو هذا هو المفروض - أن يحدث في وسط ما من أوساط الفكر الإنساني فضيحة عارمة كالتي حدثت في معقل العلم الحديث حول اسم عالم النفس البريطاني الشهير سيريل بيرت ؟ عندما توفي سيريل بيرت عام 1971 م وهو في الثامنة والثمانين من العمر كان يتمتع - كما يقول الدكتور أحمد أبو زيد - بقدر هائل من الاحترام والشهرة والقوة والنفوذ في الأوساط العلمية والرسمية ، لم يبلغها عالم آخر منذ أيام وليم جيمس . وكانت آراؤه بمثابة حجر الزاوية في بناء نظرية متماسكة عن دور الوراثة في الذكاء ، ولقد قام بيرت نفسه وكثير من أتباعة وتلاميذه بعدد كبير من التجارب تؤكد ذلك الاتجاه .. والآن يتعرض كل ما تركه للرياح بعد أن ظهر من العلماء من يتهم بيرت بأنه كان يزيف النتائج ويزورها ، بل إنه كان يتحدث عن تجارب واختبارات لم تحدث أصلا ، وينشر دراسات ومقالات تحت أسماء وهمية لمؤلفين وباحثين لا وجود لهم .. ويملأ تلك المقالات بالمديح والثناء على شخصه واسمه . وكما ذكرت إحدى المجلات التي أشارت إلي هذا الاتهام الخطير فإن الأثر الذي نجم عن هذا الموقف الجديد لا يقل عن الأثر الذي يمكن أن ينجم عن افتراض أن تشارلس داروين لم يقم مثلا برحلتة الشهيرة على ظهر الباخرة بيجل التي ترتب عليها ظهور نظريته عن التطور وأصل الأنواع ، وأنه قام بتلفيق الحقائق والوقائع ، وبالتالى تزوير النتائج التي ظهرت في كتابه الشهير ، وأن هذا الكتاب ليس شيئا سوى تخيلات وأوهام ، نبعت في ذهن داروين وهو يدخن الأفيون .. وليست هذه هي الحالة الأولى أو الوحيدة في تاريخ تزييف العلم وتزوير النتائج ، لتحقيق أهداف خاصة ، قد تكون متعلقة بالرغبة في الظهور وحب الشهرة ، أو التمسك بالخطأ الذي أوصل إلى المجد .. ولعل فضيحة سيريل بيرت تذكر بفضائح أخرى قريبة منها ، فضيحة مشابهة كان لها دوي هائل منذ ما يقرب من ربع قرن ، وبالذات في عام 1953 ، حين نشر فاينر وكلارك كتابهما الذي فضحا فيه " أكذوبة بلتداون " وبلتداون إشارة إلى اكتشاف إنسان بلتداون الذي ادعاه تشارلس دوسون . ففي عام 1912 أذاع شارلس دوسون نبأ اكتشاف أجزاء من جمجمة وفك في حفرة ببلدة بلتداون في جنوبانجلترا ، ولما أعيد تركيب هذه الأجزاء تبين أنها - جمجمة إنسان حديث ذات فك أسفل يشبه فك القرد . وقد أثار إنسان بلتداوان هذا جدلا طويلا مثيرا بين المشتغلين بدراسة عصر ماقبل التاريخ . لأنه كان يشبه أن يكون هو الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد . وقد سلم بصحة هذه البقايا عدد من ثقات العلماء .. وأخيرا : أسفرت الدراسات والاختبارات في عام 1953 عن أن جمجمة بلتداوان مزورة ، وأنها جمجمة رجل حديث ، وأن الفك والأسنان لقرد حديث ، وأن هذه الأجزاء عولجت كيميائيا ، بحيث تبدو حديثة وصحيحة . ثم وضعت في حفرة من الحصباء بواسطة رجل مجهول .. وقد تم اكتشاف زيف هذه الحفرية بفضل تقدم الطرق العلمية الحديثة([1]) ولم يكن من الممكن كشفه في حينه . وفي عام 1975 اكتشف في أمريكا بعض محاولات التزييف في المجال الذي يعرف الآن باسم الباراسيكولوجي ، للارتفاع بمستوى ذلك الاتجاه ، وإضفاء الطابع العلمي عليه . وقد تم ضبط أحد الباحثين الرئيسيين ، وهو يحاول التدخل في إحدى التجارب ، واضطر إلى الاستقالة . ومن هنا فكما يقول الدكتور أحمد أبوزيد ( يجب أن تحتل قصص التزييف العلمي مكانا في تاريخ العلم إلى جانب الجهود الفاشلة من جانب ، والانجازات الناجحة من جانب آخر ، سواء بسواء )(1)
والخلاصة أن دعوى عصمة العلم إشاعة يتبادلها أنصاف المثقفين وتوظفها أبواق الإلحاد ، وهى بالتأكيد ليست نابعة من المنهج العلمي أو من العلماء .
(6) عجز العلم في مجالات علمية أخرى :
أولا : الاستحالة في علم الفيزيقا : إن لنا أن نتساءل عن صلاحية المنهج التجريبي للبحث في عالم الطبيعة أصلا ..؟؟ وقد يبدو هذا التساؤل شاذا أو غريبا ، لما هو شبيه بالمسلمات من أن عالم الطبيعة هو الميدان الأصيل للمنهج العلمي التجريبي ، الذي ترفع إليه التوسلات كي يقتصر عليه ولا يتعداه إلى غيره . لكن هذه الغرابة تزول إذا انتبهنا إلى القضية التي يقررها علم الفيزيقا الحديث القائلة بأن العلم التجريبي يعجز عجزا مطلقا عن ملاحظة الجزيء إلا في حالة شاذة من أحواله وهى حالة التصادم ، وفيما عدا ذلك فإن ملاحظته مستحيلة استحالة مطلقة . وذلك لأنه كما يقول ريشنباخ : ( من الضروري لكي نرى جزيئا أن نضيئه ، وإضاءة جزيء يختلف كل الاختلاف عن اضاءة بيت ، ذلك لأن الشعاع الضوئي عندما يقع على جزيء يخرج به عن طريقه ، وإذن فما نلاحظه صدمة ، وليس جزيئا يسير في طريقه دون أن يعترضه شيء.. وإذن لا يكون بوسعك أن تعرف ماذا كان يفعل قبل الملاحظة )([2]) إن هذا يعني نتيجة في منتهى الأهمية والخطورة : هي أن المنهج التجريبي غير مطلق الصلاحية بطبيعته للبحث في عالم الجزيئات . فماذا نقول إذا كان عالم الجزيئات هو ما يكون عالم الفيزيقا ؟ ومن هنا حق لبرتراند رسل أن يقول : ( ليس العلم وحده هو الذي يكون مستحيلا إذا نحن اكتفينا بمعرفة مايمكن أن يقع في خبرتنا ، وما يمكن أن نتحقق من صدقه فقط ، ولكن قدرا كبيرا مما لا يشك أحد مخلصا في كونه معرفة يصبح مستحيلا )([3]). ولكن إذا كان الأمر كذلك فما الذي يدعو رسل إلى إنكار الله استنادا إلى " العلم ... " هذا ؟
" ثانيا " عجز العلم في مجال علم الحياة والنفس والاجتماع : لا يغيب عنا محاولة أوجست كونت إقامة العلوم الانسانية والاجتماعية على نفس النسق التجريبي الذي يقوم عليه علم الفيزيقا ، واعتباره أن هذه المحاولة تبدأ بوضع : قانون الأحوال الثلاث " وقد تأكد انهيار هذه المحاولة بانهيار هذا القانون . كما تأكدت الاتجاهات الحديثة في العلوم الاجتماعية التي استقرت على التفرقة بين النموذج الإنسانى ، والنموذج الفيزيقي أو البيولجي أو التعليمي. ( إن أعظم منجزات العلم يتأتى - في الغالب - من الطبيعة الصماء ، وحين كان الأمر يتطلب ، خلال هذا الكتاب ([4]) تقديم أمثلة عن النظريات العلمية كنت في غالب الأحيان أتجه إلى الفيزياء ، منجبة العلوم الأخرى . أما الآن فلا بد أن أسأل عما يستطيع العلم قوله بالنسبة للحياة ، مع علمي بأنني سأجد نفسي حالا أتخبط وسط عدد من الخلافات . غير أنه يمكننا كخطوة مبدئية أولى أن نصنف المهتمين بهذه القضية إلى فئتين هما : الحيويين والآليين ، وإذا نحن رجعنا إلى " قاموس الفلسفة " وجدنا تعريف الفلسفة الحيوية بأنها " المذهب القائل بأن لظاهرات الحياة طبيعة منفردة تجعلها مختلفة جذريا عن الظاهرات الفيزيائية الكيمائية " . ويقابل الفلسفة الحيوية مذهب الآلية البيولوجية الذي يؤكد أنه يمكن تفسير جميع الظاهرات الحية بواسطة المفاهيم الفيزيائية الكيمائية دون غيرها.. نحن ندرك ، بلا شك ، أن العلم قد حقق بعض التقدم في دراسة الحياة ، لكننا نميل إلى اعتبار ذلك متعلقا في معظمه بأشكال الحياة الدنيا ، وأن هذا التقدم يغدو أقل شأنا كلما تدرجنا صعدا في سلم النشوء والارتقاء ، على أن هذا التقدم لا يقارن بحال من الأحوال بالانتصارات التي حققها علم الفيزياء .. إن التقييم الصحيح للوضع الحالي في العلم هو في أن نقول : إن الفيزياء والكيمياء عملاقان أمام البيولوجيا والعلوم الاجتماعية ) ([5])
ويقول الدكتور ميخائيل كيرونسك الأستاذ بكلية الطب بجامعة تشارلز ( إن أي نموذج " باراسيكولوجي " يفسر بالأساليب التقليدية على نحو مماثل للإدراك البصري يكون قاصرا عن تفسير ظاهرة الاتصال بالتخاطر ، فالنموذج الوضعي يشوه الواقع في حقيقة الأمر، ولا يشمل الواقع الذي توضع فيه تلك الظواهر ) . ويقول الأستاذ الكسندر دوبروف بأكاديمية العلوم السوفيتية : ( إن الطابع الفريد في علم السيكوترونات الحديثة يكمن في أنه يحمل في طياته إنكار الأسس العلمية التي انبثق عنها ، والتي يمكن اعتباره تطورا منطقيا لها . والحقائق العلمية المثبتة لعلم السيكوترونات والظواهر التي يعني بها لا يمكن تفسيرها في نطاق الأسس التقليدية لعلوم الفيزيقا والكيمياء والبيولوجيا ) .
ويقول الأستاذ الدكتور محمد مهران عن رسل : إنه لم يتخل على الإطلاق عن ثنائية القوانين العلية ولم يدع أن كل ما يمكن أن يقال في علم النفس وقوانينه الذهنية يمكن أن يقال في حدود الفيزيقا وقوانينها الفيزيقية . فهو يؤكد أن هناك معرفة في علم النفس لا يمكن مطلقا أن تكون جزءا من الفيزيقا. فعلم النفس متميز عن الفيزيقا والفسيولوجيا ، ومستقل عنهما جزئيا ، فكل معطيات الفيزيقا هي معطيات لعلم النفس ، إلا أن العكس غير صحيح ، وهذا يعنى أن هناك معطيات لا يمكن أن تخضع للقوانين الفيزيقية ، بل تخضع فقط للقوانين الذهنية التي يعالجها علم النفس : إن الفيزيقا - في رأي رسل - لا تغطي كل مناطق المعرفة الانسانية بل هناك مناطق معينة بمنأى عن نفوذ الفيزيقا .([6])
إنه في مجال العلم الواحد - بله جملة العلوم - لا يستطيع العلم أن ينتظر إلى أن يعرف كل شيء عن موضع بحثه ، وذلك لأنه كما يقول برتراند رسل ( إنه إذا لم يكن في وسعنا أن نعرف شيئا ما إلا إذا عرفنا كل شيء فإننا لن نستطيع أن نعرف أي شيء على الإطلاق ، ولا يصدق هذا على الحوادث الجزئية فحسب ، ولكنه يصدق أيضا على القوانين التي تصف الحوادث )([7])
ومن هنا يمكننا أن نقرر بصفة عامة عجز العلم عن الإثبات ، من ناحية وعجزه عن وضع نظرية دقيقة من ناحية اخرى : ففي عجز العلم عن الإثبات : يقول الدكتور جون كيمني : ( إن العلم يمكن له أن يؤكد بطلان بعض النظريات العامة ، ولو أنه لا يستطيع البرهان القاطع على صحتها ، والواقع أن هذه القواعد تفترض تحليلا مفرطا في البساطة لطبيعة النظريات العلمية ، وإذا تصفح القارئ أي كتاب في العلم فإنه سوف يلاقي صعوبة في العثور على نظريات معبر عنها بلغة الأسباب والنتائج ، ذلك لأن نظريات كهذه لا تكون مشوقة إلا في مراحل العلم المبكرة ) ([8])
وإذن فهناك عجز في العلم عن وضع نظرية دقيقة : يقرر جون كيمنى أنه بالاستناد إلى مبدأ هايزنبرج المشهور ، فإن هنالك حدا للدقة التي يمكن لنا أن نجمع بها معلوماتنا . إننا إذا عمدنا مثلا إلى قياس سرعة كهيرب ما بأقصى دقة ممكنة ، أى في حدود خطأ قدره 10 بالمئة ، فإن تقديرنا لمكانه في أية لحظة سيكون على خطأ كبير ، ذلك أن الخطأ في تقدير الموقع بالرغم من كونه ضئيلا.... يبلغ قدرا كبيرا من الضخامة بالنسبة لحجم الكهيرب ، حتى ليمكن مقارنته بخطأ في قياسات الإنسان يبلغ حوالى الميل الواحد ، وليس ثمة وسيلة بحسب مبدأ هايزنبرج لرأب هذا الصدع ( [9] ) . ثم يقول الدكتور جون كيمنى ( وقد توصل علماء الفيزياء استنادا إلى ذلك القول.... باستحالة وضع النظرية الدقيقة ) ([10] ) .
حقا " وعلم آدم الأسماء" إنها الأسماء ، فقط الأسماء حقا " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " حقا " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " حقا "إن الهدى هدى الله " حقا "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " وتيتم أ والله اعلم
------------------------------------------------------------------------ ([1]) مجلة عالم الفكر عدد ابريل - يونية 1977 ، مقال ماذا يحدث في علوم الانسان والمجتمع للدكتور أحمد ابو زيد ص 233 وما بعدها 00 ([2]) نشأة الفلسفة العلمية 164 . ([3]) فلسفتي 000 ص 233 . ([4]) الفليسوف والعلم لجون كيمني 00 ص 281 ، ص 282 . ([5]) ص 40 : 60 من العلم والظواهر الخارقة . ([6]) برتراند رسل للدكتور محمد مهران ص 91 . ([7]) فلسفتي ص 242 . ([8]) الفيلسوف والعلم ص 174 . ([9]) الفليسوف والعلم ص 126 0 ([10]) الفليسوف والعلم ص 129 : 130 0