مفردات كثيرة شكلت ملامح طفولة الروائى الكويتى الرائع سعود السنعوسى، مبدع رواية (ساق البامبو) الحاصلة على جائزة البوكر لعام 2013، كان حصوله على الجائزة مفاجأة مدهشة لحداثة سنه، والأكثر دهشة هو العمق الذى يسكن حروفه والحكمة التى تعبر عنها مفرداته، والبراءة الساحرة التى تطل من سطوره. اقتربت إنسانياً من المبدع الرائع سعود السنعوسى، وأدركت السر، سر تفرده أنه لا يزال يعيش فى وهج الطفولة الساحرة، تدهشه كل الأشياء، فيتفاعل معها، تسكنه كل الحكايات التى يتردد صداها بوجدانه بصوت جدته الحنون، بوابته لعالم الخيال الزاخر بالدهشة والبهجة والمتعة، ارتبط كاتبنا الرائع ككل الأطفال بقصص علاء الدين وعلى بابا الشهيرة، فكان مصباحه السحرى وكنز على بابا هو الكتاب، فيه الأفكار الباهرة، والحل لكل مشكلة. مع لمحات من طفولة الكاتب الرائع سعود السنعوسى بقلمه نعيش أصدقائى. بوابة الخيال: وُلدتُ فى «البيت العود» بيت العائلة. بيت كبير عموده جدّة. عمود يستند إليه الكثير من الأبناء، الكثير من الأحفاد، الكثير من القصص والحكايات. علاقتى بجدّتى وراء كسر حواجز الواقع فى مخيلتى والانطلاق إلى عوالم الخيال اللا محدودة. فى حضرة جدّتى أكون.. كما أنا دائما، صغيرا.. صباحا، فى الوقت الذى ينصرف فيه أفراد العائلة إلى أعمالهم. فى حضرتها تتكلم الحيوانات.. تمشى الأشجار.. تستحيل النساء إلى زواحف أو طيور الزرزور. فى حضرتها وحسب كان العالم الذى أحب. استمعتُ إلى حكايات الجنيات. فى البدء كان الكتاب، أوراقا تضمها جلدة سميكة، لا أعرف القراءة بعد، قبل دخولى إلى المدرسة. أعجبت بالكتاب شكلا. شكلا وحسب، ففى الكتاب كان كل شىء، الأفكار والحلول والخيال وعوالم لا تنتهى. لماذا تفتقت تلك الصورة فى ذهنى حول الكتاب وعالمه السحرى وأنا لم أتعلم القراءة بعد؟ قد يبدو الأمر طريفا إن قلت، بكل جدية، إن مرد الأمر إلى بابا سنفور وسنو وايت وطائر البوم الحكيم. فى أفلام الكارتون التى كنت أشاهدها صغيرا، كان بابا سنفور يحل مشكلات مملكة السنافر بالعودة إلى مكتبته. الساحرة فى سنو وايت تدبر مكائدها بالرجوع إلى كتابها السحرى تقرأ الطلاسم والتعويذات. أصبحت أجمع الكتب صغيرا فى «البيت العود»، حيث أمضيت جل سنوات عمرى. كتب المناهج المدرسية التى تحتفظ بها أمى المعلمة. كتب أعمامى وعماتى المدرسية. نسخ من القرآن الكريم. المجلات. دليل الهاتف ودليل التليفزيون الأسبوعى. هيأتُ لى مكتبة صغيرة فى صالون البيت تتكون من رفين أو ثلاثة، وأصبحت أقضى وقتا بين كتبى المكدسة/المقدسة، أبتدع المشاكل فى مخيلتى الصغيرة وأبحث لها فى كتبى عن حلول. أمرر أصبعى الصغيرة على السطور وأنا لا أفقه الكلمات، ولكننى أقرأ ما تمليه علىّ المخيلة. كنتُ أتحرَّق شوقا لدخول المدرسة. ليصبح لى كتابى الخاص، مثل كتب أبناء عمومتى الذين يكبروننى. أنظر فى أولى صفحاته إلى جملة أسمعها ولا أتمكن من قراءتها: «مع حمد قلم». كنت أمسك بكتبهم. أنظر إلى صورة حمدٍ وقلمه، أصبو إلى يوم أقرأه فيه. دخلت المدرسة. الصف الأول ابتدائى. أمسكت بكتاب اللغة العربية أبحث عن حمد، ولكن لا حمد ولا قلم، أصابتنى وزارة التربية بخيبة تغيير المنهج، لتلقننى أول جملة لا تمتُّ للقلم بصلة: «أنا آكلُ وأشربُ لأعيش وأكبر». أكلتُ كثيرا.. عِشتُ طويلا.. كبرت. تعلمت القراءة. أدمنت قصص الأطفال من سلسلة «المكتبة الخضراء» الصادرة عن دار المعارف وسلسلة «ليدى بيرد» ذات العلامة الشهيرة بالدعسوقة المرقطة. تفتق ذهنى على عوالم أتمنى استعادتها اليوم، عوالم لا تحدها حدود، سبرت أغوارها فى كتب الأطفال وقصص جدتى وحكاياتها. امتلأت قراءة مثل شهيق طويل لا بد أن يتبعه زفير، وكانت الكتابة زفيرى. فى سن صغيرة بدأت فى الكتابة لى.. لأمى وأبى.. أسرتى ووطنى. كتابات بسيطة بل وربما ساذجة ولكنها حتما كانت.. صادقة.