"المقصبة منين يا حاج لو سمحت" - وانت عايز تروح المقصبة ليه.. قالها متفحصا كعادة البلاطمة في الرد على السؤال بسؤال وامتناعهم الأبدي عن إراحة المؤمنين. - "وأنت مال أهلك".. ومضت خاطفة في ذهني بينما امتنع لساني عن نطقها مفضلا استعمال الديبلوماسية لآخر لحظة. - يعني مشوار كده. - أنت "داكطور" الوحدة الجديد "ماه".. وماه هي كلمة تحمل فى طياتها أكثر من معنى فهى خليط من "مش كده" و"هوه كده" و"باينك كده" و"هو كذلك".. ابتسمت رغما عني مبهورا من فراسة العجوز وقدرته على قراءة الأشخاص وتبسطت مع الرجل ضاحكا.. ماه إن شاء الله ياحاج. -وأنت يابنى إيه اللى موديك هناك.. "طبعا لم تكن الثورة قامت بعد ولم يكن هذا المصطلح متعارفا عليه كدليل على جبن وخسة كل من استخدمه منددا بذهاب الشباب إلى أى مكان مطالبا بحقه" - سألته، طب وهيا مالها المقصبه يعنى ياحاج. - قاللي يا بني دى حته بعيده ومقطوعة. - قلتله مش مشكله نروح ونشوف، يعنى هى على بعد قد ايه كده من مخرج بلطيم البلد. - قالى يعنى حوالى 6 كيلو. بعد حوالى 8 كيلو توقفت مره أخرى.. وسألت " المقصبه لو سمحت". - زى ما انت ماشى كده يا أستاذ كمان 6 كيلو.. "6 كيلو وعمر ماشي... لسه أجمل يوم ما جاشى" بعد حوالي 4 مرات لسه 6 كيلو .. يعني 24 كيلو وهو ما أكد لي أن وحده قياس المسافه مختلفه تمام الإختلاف عند البلاطمة فالكيلو متر عندهم ماشاء الله يساوى 4 أضعاف الكيلو متر الطبيعى. وفي النهاية وجدت شبح قرية على يسار الطريق، عباره مجموعة بيوت متناثره وحاجه كده زى ماتكون مدرسه وحاجه كده زى ماتكون وحده صحيه وكشك خشبى مكتوب عليه "مركز شباب قريه المقصبه"، المهم روحت ع الوحده عدل.. ملقيتش حد خالص غير كاتب الوحدة.. وعرفت منه حاجه ظريفة جدا أن البلد مفيهاش كهربا، وأن الكهربا بتيجى يوميا من 8 صباحا الى 8 مساءً عن طريق مولد كهربائى وباقى اليوم القمر هو اللى بينور. مقدرتش أفهم الحقيقة السر فى ان النور يبقى موجود بالنهار ويقطع بالليل إلا لو كان سكان القريه يريدون ليلا دامسا لكى يتمكنوا من ممارسه نشاطهم اليومى كمصاصى دماء. أخدت قرارى مسرعا بأنى مش هاروح المقصبه لو حصل إيه وكده مفضلش قدامى فى ضوء الخيارت المتاحه خير وحده "الدعاة"، قلت وماله ده حتى إسمها "الدعاه " من الدعوه وكده، أكيد هاتبقى أحسن من المقصبه حتى إسمها كده معناه "المجزره". عدت أدراجى مرورا ببلطيم مره أخرى ثم بدأت فى التعرف على قرى بلطيم عن طريق القياده على مهل: الخاشعة -الكوم الأحمر -سوق الثلاثاء.البنائين المرازقة شوري العترسة برج البرلس مسطروه مصيف بلطيم-الشيخ مبارك الشهابية - بلوش مرتضى العتارسه- الخشوعي - المعدية القبلية - المعدية البحرية - الحماد - العياش الغربي -العياش الشرقى- المستقبل- الدعاء (الدعاه يعنى). معظم هذه الأسماء عرفتها فيما بعد بالخبره عندما كنت على وشك أن أصبح مدير الإداره الصحيه ببلطيم، وسيأتى ذكر هذا لاحقا. الى اليمين وفى الصحراء "الصحراء فعلا يعنى" أو بمعنى اخر "فى الهوّ " بعد حوالى 3 كم من السير العمودى على الطريق الدولى تجد وحده الدعاء وهى دورين فى وسط الصحراء، والغريب اننى لم أجد أيضا أى بنى آدم خلقه ربنا فى المكان بأسره .. واقفا بمفردى فى الصحراء والرياح الساخنه المحمله بذرات الرمال تعاقبنى على دخولى كليه الطب، أخدت أفكر فى الاحتمالات المتاحه قدامى: هل من الممكن مثلا أن يكون سكان الدعاه من النوع الشفاف بحيث لا يتمكن أبناء المدينه من المرفهين أمثالى من رؤيته بالعين المجرده ؟!، هل من الممكن أن يكون مدير الإداره والأستاذ عبد الشافى هم جزء من برنامج الكاميرا الخفيه الذى يعرض فى رمضان وسأجد إبراهيم نصر الآن يخرج ضاحكا من خلف هذه التلال على البنى آدم الغلبان اللى شرب المقلب؟!. طب من هو البنى آدم العبقرى الذى أمر ببناء هذه الوحدات وما الغرض من بنائها؟!. طرحت كل تساؤلاتى جانبا وقد إتخذت قرار لا رجعه فيه وهو أنى مستحيل أستلم فى هذه الوحدات تحت أى ظرف من الظروف، وغدا صباحا سأعاود الذهاب الى الإدارة الصحيه، وسيكون هناك كلام آخر مع هذا العبد الشافى ومدير ادراته، وهذا ماكان.