سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الوطن» ترصد أحزان أسرة ليلة العيد فى «قرية التسمم» أبناء محمد حماد شربوا من «الحنفية» وناموا.. وعندما استيقظوا كانوا يصرخون من شدة الألم ولم يتمكنوا من الوقوف
انتهت صلاة الفجر وبدأ المصلون فى ترديد تكبيرات صلاة العيد، صوت ميكروفون السرادق الذى ستقام فيه الصلاة يصل آذان الجميع، وحالة الفرح تسيطر على كل من يسمع أصوات المهللين، ومعهم محمد حامد حماد (55 سنة)، فلاح من أبناء قرية صنصفط الذى شارك الآلاف من أبنائها فرحتهم بالخروج لصلاة العيد فى الساحات وأمام المساجد، لكن «محمد» وأهل القرية الفرحين لم يكن يعلموا أن العيد سيبدأ وينتهى بمأساة تسممهم بمياه شرب ملوثة، وتتحول فرحة العيد وبهجته إلى أحزان وأمراض. فى تمام الرابعة صباحا استيقظ «محمد» من نومه وأيقظ أسرته، المكونة من 8 أفراد، ليخرجوا جميعا لأداء صلاة العيد، فلم تستجب لطلبه سوى زوجته نعمات محمد زايد، بسبب عدم مقدرة ابنيه «محمود» و«حمادة» على الاستيقاظ: «ظنيت فى البداية إنهم كسالى فتركهم، قولت سهرانين طول الليل مع أصحابهم، وعاوزين يناموا»، ثم خرج بمفرده إلى الصلاة، وعندما عاد إلى منزله البسيط فى آخر حارة جانبية سمع صوت نجله الأكبر «محمود» يعلو بنبرات التعب ويصرخ قائلا: «جسمى سايب»، ويضيف الأب: «جريت على الحمام أشوف فى إيه، فوجدته مستلقيا على جانبه الأيمن فى دورة المياه لا يقوى على القيام، وتغير لون الولد». ويكمل الأب محاولا تمالك أعصابه لاستكمال الحديث: «سارعت بحمله على كتفى وتوجهت به إلى الوحدة الصحية، وبالفعل وجدت الطبيب موجودا بداخلها وعندما شاهدنى فى حالة هلع طلب منى الهدوء، وقال لى: «البلد كلها تعبانة وابنك الحالة رقم 150»، ويوضح الأب: «لم تزدنى كلمات الطبيب إلا رعبا، وتسرب إلى داخلى شعور بأن ابنى وأهل البلد مصابون بوباء قد يطيح بحياتهم، فطالبت الطبيب بسرعة توقيع الكشف الطبى على ابنى، فأصر على أخذ مبلغ 15 جنيها؛ لأنه فى غير أوقات العمل الرسمية، ثم أنهى الكشف وأعطانى شريط أقراص وزجاجة دواء وعدت بولدى إلى المنزل دون تحسن لأجد المفاجأة الكبرى، وبمجرد دخولى إلى الشارع سمعت صوت شقيقه الأصغر يصل إلى نهاية الشارع، وتركت الأول وأسرعت إليه فوجدته فى نفس حالة أخيه، فلم أقدر على القيام من مكانى حتى تدخل أحد جيرانى وساعدنى فى نقله للمستشفى». تلتقط الأم طرف الحديث وهى تبكى: «أنا عندى عيل ميت وهو فى الجيش وعنده عيلين يعنى مش ناقصة»، ثم تحكى مشاهد الرعب التى شاهدتها وهى تجرى حافية القدمين تجاه الوحدة الصحية لترى ما أصاب ابنيها وتقول: «مشهد أولادى وهما ملقيين على الأرض ينتظرون تعطف الطبيب للكشف عليهم أخرجنى عن شعورى ووجدت نفسى أصرخ دون وعى، فتدخل أحد الأطباء المنتدبين لتوقيع الكشف عليهم، وعلى الرغم من طمأنته لى بتحسن حالتهم، فإننى لم ألتمس ذلك فى وجوههم.. العيال تعبانة ومصفرة زى ما هى» لتعود الأسرة إلى المنزل وخلفها عشرات من الأهل والجيران، دون تحقيق أى نتيجة. المنزل تحول إلى عنبر مستشفى، الجميع يتحرك فيه بهدوء بسبب مرض الولدين، لكن تحركات الجدة حميدة إبراهيم كانت غير طبيعية، فهى كعادتها تميل إلى الجلوس وعدم التحرك، لكنها هذه المرة تزاحم المرضى فى الدخول إلى دورة المياه، حتى أن لون وجهها ليس كطبيعته، وبات يميل إلى اللون الأصفر، ولم يعد يلتفت إليها أو يرعى شئونها بسبب انشغال الأسرة بعلاج ابنيها، وبعد أن قررت الصمت على ما تشعر به من أعراض مرض، خشية إحداث قلق، لم يقدر جسدها النحيل على تحمل الآلام، فسقطت على الأرض مغشيا عليها، ليسرع رب الأسرة ومن معه من جيرانه بها إلى الوحدة الصحية ولكنهم هذه المرة فشلوا فى توقيع الكشف الطبى عليها؛ لأن الأعداد زادت والمرض تحول إلى كارثة. الحالة المرضية التى أصابت جميع أبناء القرية تقريبا أجبرت عائلة «محمد حماد» على قضاء أول أيام العيد أمام باب الوحدة الصحية، وليت الأمر انتهى بهم عند ذلك الحد، فعند عودتهم إلى منزلهم بعد ساعات طويلة قضوها فى البحث عن العلاج وجدوا طفلتين من أبناء الابن الأكبر المتوفى تصرخان من الألم، فتخرج جدتهما «نعمات» عن شعورها وتظل تصرخ حتى تسقط مغشيا عليها «لأن دول من ريحة المرحوم وكان موصينى عليهم»، ولم يعد أحد فى الأسرة يقوى على الخروج، فالجدة والأبناء والأحفاد يعانون مرضا غريبا عليهم، يجعلهم لا يقدرون على القيام من مكانهم، الأحفاد لم يناموا طوال الليل من شدة الألم، وما إن تستفيق الأم من غفوتها حتى تعود مرة أخرى ليغشى عليها، أما الأب فحاول التماسك أمامهم «على الرغم من إنى كنت حاسس إنهم هيروحوا منى، لذلك لم يعد هناك بد من استقدام طبيب خاص». الأم ما زالت تبكى وهى تروى ما حدث فتقول: اقتربت من ابنى محمود وسألته عن حالته فلم يجبنى، فعاودته الحديث بأكثر من سؤال حتى أتمكن من سماع صوته، فسألته عن آخر شىء تناوله؟ فأخبرنى بصوت ضعيف بأنه أراد وشقيقه الشرب قبل نومهما ليلة العيد فوجدا «جركن المياه» قد نفد فاضطرا للشرب من مياه الحنفية، ومعهما جدتهما التى طلبت منهما: «بلوا ريقى بشوية ميه»، فكان ما كان.