سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصطفى السعيد: قيادات الإخوان تجار.. لكن لا يحملون فكراً اقتصادياً.. وأخشى أن يكرروا تجربة جمال مبارك وزير الاقتصاد الأسبق فى حوار خاص ل«الوطن»: حكومة قنديل فى اختبار صعب أمام مأزق «السيولة»
إصلاح الاقتصاد ممكن الآن أكثر من أى وقت مضى بفضل الديمقراطية التى بدأنا فيها وسننعم بثمارها قريباً، هذا ما يؤكده الدكتور مصطفى السعيد وزير الاقتصاد الأسبق، الذى يخشى أن تكرر جماعة الإخوان خطأ جمال مبارك، وقال، إنهم تجار يؤمنون -مثل جمال وبطرس غالى- بحرية الأسواق؛ لكنهم يفتقدون الفكر الاقتصادى العميق، ويعتقد فى حوار ل«الوطن»، أن مصر، مثل اليابان وإنجلترا وإسرائيل، فقيرة فى مواردها وغنية بعقولها، ومن ثم يجب أن يكون التعليم والصناعة هما ركيزتى الاقتصاد المصرى، وشدد على ضرورة أن يتبنى الإخوان نموذجاً اقتصادياً تلعب فيه الدولة دور الحكم فى مباريات كرة القدم الذى يترك الجميع يلعب؛ لكنه جاهز بالبطاقات الصفراء والحمراء للمخالفين.. إلى نص الحوار: * تواجه الحكومة القادمة تلالاً من المشاكل وأصبحت الخيارات الاقتصادية صعبة، فلو كنت صانع القرار كيف كُنت سترتب أولوياتك؟ - الاقتصاد المصرى فى وضع صعب جداً، فعجز الموازنة وصل إلى 147 مليار جنيه والاحتياطى النقدى تناقص بشكل مقلق وسعر صرف الجنيه -رغم دعمه- يتناقص والبطالة والتضخم فى زيادة؛ لكن رأيى أن أهم مشكلة تواجه الاقتصاد الآن هى نقص السيولة النقدية، فالسيولة مثل الدم للجسم أو الزيت لمحرك السيارة، ودونها كل شىء يتوقف، ومن ثم الخطوة الأولى التى يتعين على الحكومة القادمة اتخاذها هى توفير السيولة اللازمة؛ لكن بالطبع يجب أن يسبق هذه الخطوة استقرار سياسى وأمنى، حتى يطمئن المستثمرون وتعود الأموال التى خرجت من البلد خلال الشهور الماضية؛ لأنه دون أمن واستقرار سياسى لا يجوز الكلام عن الاقتصاد أصلاً. * هناك طرق مختلفة لتوفير السيولة المطلوبة، ما الطريقة التى تقترحها؟ - نظرياً، يمكن توفير السيولة بعدة طرق، وكل طريقة لها وعليها، فمثلا يمكن ترشيد النفقات وتقليل الدعم، وهذا مدخل ضرورى لكنه سيحتاج وقتاً، وأيضاً يمكن طبع النقود، وهذه طريقة سريعة للحل؛ لكن سيترتب عليها تضخم (ارتفاع فى الأسعار)، وتقديرى أن أنسب طريقة الآن السعى للحصول على قروض ومنح خارجية بشكل عاجل. * لكن هناك حساسية ومخاوف لدى قطاع كبير من الرأى العام تجاه الاقتراض؟ - مشكلة الاقتراض فى شيئين، أولهما شروط القرض وثانيهما أوجه إنفاقه، فلو استطعنا أن نحصل على قروض بشروط مقبولة، لا تتضمن تنازلات سياسية ووجهناها لمشروعات إنتاجية حقيقية قادرة على تحقيق عوائد، فلا مشكلة، وعموماً الاقتصاد هو علم الاختيار، فكل قرار تتخذه ستكون له مزايا وعيوب؛ لكن توفير السيولة على أهميتها ليس إلا خطوة أولى وليس نهاية المطاف، إذ لا بد أن يسبقها ويتلوها تصور واضح من جانب الحكومة لهوية اقتصادنا، أى ماذا تريد وكيف ستخطط لمستقبل البلد الاقتصادى بعد معرفة نقاط الضعف والقوة. * وما أوجه الضعف والقوة فى الاقتصاد المصرى؟ - مقارنة بدول أخرى كثيرة، مصر بلد محدود الموارد، فقد وصلت مصر لأقصى الحصص من المياه، وهناك الآن محاولات من جانب بعض الدول لتقليل هذه الحصة، وليس لديها وفرة فى مصادر طاقة أو المعادن، والمورد الأساسى للاقتصاد هو العنصر البشرى الذى يمثل القوة الحقيقية، ومن هنا أرى أن التعليم والتصنيع يجب أن يكونا ركيزتى اقتصادنا، لا أقول إن الزراعة أو السياحة أو الخدمات المالية ليست مهمة، ولكن أقول أن التركيز يجب أن يكون على نظام تعليمى جيد يُوجه لخدمة قطاع الصناعة؛ لأن مصر مثل اليابان وإسرائيل وإنجلترا، هذه الدول ليست لديها وفرة فى الموارد الطبيعية؛ لكنها حققت التنمية باستخدام التكنولوجيا والبحث العلمى الذى ساعدها على إنتاج سلع ذات قيمة مضافة، ولذلك فالنموذج المناسب لمصر هو الصناعات التى تعتمد على «المخ» وليس المواد الخام مثل التليفون المحمول، إذ إن قيمة المواد الخام فى التليفون الذى تحمله لا تساوى أكثر من جنيه؛ لكنك تشتريه ب 4000 جنيه بسبب ما فيه من تكنولوجيا وإبداع، والفارق بين الجنيه وال4000 هو ما نسميه القيمة المضافة. * كثير من الاقتصاديين -وأنت واحد منهم- كانت لديهم تصورات هائلة للاقتصاد، وما إن دخلوا «قفص الحكومة» حتى تحولوا لموظفين وتبخرت تصوراتهم، وذهبت كل جهودهم للمشكلات اليومية فقط لا غير.. لماذا؟ - هذا يحدث لأسباب مختلفة، منها أن الوزراء فى مصر يعملون فى جزر معزولة، وهناك وزارات -تقريباً- خارج سيطرة رئيس الحكومة، ففى عهد مبارك، رئيس الحكومة «ما كانش يقدر يتكلم» مع وزراء الدفاع والداخلية والخارجية، وصفوت الشريف عندما كان وزيراً للإعلام، ووزارة الشئون الاجتماعية أيام آمال عثمان بسبب علاقتها ب«الست» (سوزان مبارك)، وتلعب العلاقات الشخصية دوراً كبيراً على مستوى الوزراء، فالوزير القوى أو الذى يتمتع بعلاقات جيدة مع وزيرى المالية والتخطيط يستطيع أن يحصل على مخصصات أكثر من وزراء آخرين، وهذا أمر خطير إذ يجب أن تجرى كل القرارات بالتنسيق مع رئيس الحكومة لاعتبارات موضوعية وليست شخصية، وهناك سبب آخر يتمثل فى التناقضات التى تنشأ بين مجموعات الضغط والمصالح، وهذه التناقضات لها تأثير خطير على قرارات الوزراء. * هل يمكن أن تعطينا أمثلة من خلال تجربتك فى الحكومة؟ - الأمثلة كثيرة، مثلاً يوسف والى -وزير الزراعة الأسبق- كانت علاقاته أقوى من محمد عبدالوهاب وزير الصناعة، ومن ثم كان -على عكس عبدالوهاب- يحصل من وزارة المالية والتخطيط على ما يريد من مخصصات، وعلاقة الدكتور كمال الجنزورى كانت قوية جداً بالمشير عبدالحليم أبوغزالة، وكان وقتها وزيراً للتخطيط، فكان يوفر لوزارة الدفاع كل احتياجاتها من فوائض الوزارات الأخرى، ولو أن وزارة التعليم مثلا لم تنفق 10% من الميزانية المخصصة لها يقوم الجنزورى بإعطاء هذا الفائض لوزارة الدفاع التى توظفها فى مشاريع مختلفة، وهذا جعل علاقة الجنزورى قوية بالمؤسسة العسكرية، وربما اختياره رئيس حكومة بعد الثورة بسبب هذه العلاقة القديمة، أنا لا أقول إنه غير كفء، أنا فقط أقول إن العلاقات الشخصية تلعب دوراً كبيراً فى قرارات الحكومة وأولوياتها. * من كان يضع السياسات الاقتصادية لمصر؟ - رئيس الجمهورية؛ لكن هذه السياسات كانت تتوقف على من كان مبارك يستمع لهم ويحظون بثقته، وأثناء فترة خدمتى كوزير كان الرئيس متأثراً جداً بالدكتور مصطفى خليل الذى كان رئيساً للبنك العربى، وهذا يأخذنا مرة ثانية لأهمية الديمقراطية، ففى ظل الحكم الفردى لا تتوفر المعلومات بشكل كامل ولا توجد شفافية ولا توجد معارضة حقيقية، ومن ثم هناك دائماً خلل فى القرار النهائى. * لكن هذا يعنى أنه لم تكن هناك سياسة اقتصادية واضحة فى ذلك الوقت؟ - عند كتابة تاريخ الاقتصاد المصرى، ستكتشف أن الفترة من عام 1985 حتى 2000 لم يكن واضحاً ما هو الفكر الاقتصادى لمصر، وظهر ذلك فى تضارب قرارات الحكومة حتى داخل المجموعة الاقتصادية نفسها، فمثلا كان عاطف عبيد وسلطان أبوعلى يدعمان تجارة العملة ويريانها ضرورية لإنعاش الاقتصاد، بينما كان آخرون -وأنا منهم- ضدها، وفى السنوات الأخيرة من حكم مبارك كان الوضع مختلفا فقد كانت مجموعة جمال مبارك ونظيف ورشيد وبطرس غالى لديهم فكر واضح يقوم على إطلاق حرية السوق وقواه ولكن ثبت خطؤه، أى أنه لا يكفى أن يكون هناك فكر واضح ولكن لا بد أن يكون الفكر سليماً. * اقتصادياً، ما طبيعة الفكر الذى تبناه جمال مبارك ومجموعته وكان أحد أسباب الثورة؟ - جمال ومجموعته وعلى رأسهم بطرس غالى، تبنوا مبادئ ما يعرف بوثيقة «توافق واشنطن» أوWashington Consensus الذى يقوم على فكرة الحرية الكاملة للأسواق وعدم تدخل الدولة، هذه الوثيقة حاولت أمريكا فرضها على مصر -مثل بقية دول العالم- منذ التسعينات، وبدأت مصر-تحت الضغط- فى تبنيها؛ لكن على استحياء فى حكومات عاطف صدقى والجنزورى، لكن بداية من عام 2002 -وتحت مظلة الفكر الجديد- تبنت مجموعة جمال مبارك «توافق واشنطن» بالكامل، وبالمناسبة أمريكا روجت لهذه المبادئ ب180 مؤتمرا دوليا تحت رعاية المؤسسات المالية الكبرى -مثل البنك الدولى- التى كانت تدعو مفكرين مصريين للمشاركة فيها، ومنهم الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق، والطريف أن عبدالمنعم -و هو أحد تلامذتى- كان اشتراكياً فى شبابه، ثم بعد حضوره هذه المؤتمرات صار يروج لمبادئ توافق واشنطن! رغم أنها كارثة علينا. * بإيجاز، ما أهم مبادئ «توافق واشنطن»؟ - «توافق واشنطن» يمثل التصور المثالى لاقتصاد العالم من وجهة نظر أمريكا وحلفائها، ففى عام 1990 دعت الإدارة الأمريكية عدداً كبيراً من الاقتصاديين والسياسيين والمفكرين لوضع تصور لما يجب أن يكون عليه الاقتصاد العالمى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، وانتهى اجتماع هؤلاء بصياغة وثيقة «توافق واشنطن» المكونة من 4 مبادئ، أولها الحرية الكاملة للأسواق، أى حرية نقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال (فيما عدا حرية نقل العمالة حتى يطمئنوا أننا لن نزاحمهم على فرص العمل فى بلادهم)، ثانياً، الخصخصة والتخلص من القطاع العام (لأن وجوده يعنى أن الحكومات المحلية ستنحاز له على حساب الشركات الأجنبية التى ترغب فى دخول السوق)، وثالثاً، تحقيق الاستقرار النقدى والمالى (أى السيطرة على التضخم والتذبذب فى سعر الصرف للحفاظ على مصالح المستثمرين)، وأخيراً، ضمان حرية المنافسة (طبعا هذا يصب فى صالح الدول الغنية، إذ لا يعقل أن شركاتنا المحلية الصغيرة ستنافس الشركات الأمريكية العملاقة)، وما أخشاه أن تتبنى حكومة الإخوان القادمة هذا الفكر مجدداً. * وما الذى يدعوك للقلق؟ - لأن العمود الفقرى فى حزب الحرية والعدالة مكون من رجال أعمال وتجار مثل خيرت الشاطر وغيره يؤمنون بفتح الأسواق ولكن ليس لهم فكر اقتصادى عميق، مما يجعلنى أخشى أن يُعيدوا تجربة جمال مبارك أى وجود سوق حرة دون ضوابط كافية، وأنا أدعوهم حين يتمسكون باقتصاد السوق ألا يتمسكوا بالنموذج الذى طُبق قبل الثورة، بل بنموذج يقوم على المنافسة والعدالة وتلعب فيه الدولة دوراً واضحاً، وأتمنى أن يقرأ كوادر الإخوان كتابا هاما للمستشار الألمانى لودفيج إرهارد بعنوان: «الرخاء والمنافسة»، ويقول إرهارد وهو بانى المعجزة الاقتصادية الألمانية فى الخمسينات: «نعم أنا أومن باقتصاد السوق؛ لكن بشرطين، الأول المنافسة والثانى أن يتوزع عائد العملية الإنتاجية بين الأجور والأرباح (أى بين أصحاب العمل والعمال)، على نحو عادل، وبما أن اقتصاد السوق لا يضمن تلقائيا هذين الشرطين فقد تقوم احتكارات تعيق المنافسة، وقد يستغل أصحاب العمل عمالهم، لا بد أن تتدخل الدولة لضبط الأسواق وتلعب دور الحَكم فى مباريات كرة القدم الذى يترك الجميع يلعبون، ويقتصر دوره على التأكد من التزام الجميع بقواعد اللعبة، ويكون جاهزاً بالبطاقات الصفراء والحمراء لمن يتجاوز. * إلى أى حد تشعر بالتفاؤل بقدرة الحكومة القادمة على إصلاح الاقتصاد؟ - إصلاح الاقتصاد ممكن، والآن أكثر من أى وقت مضى، لأننا بدأنا فى تطبيق الديمقراطية، وكنت -وما زالت- مؤمناً بأن الديمقراطية ضرورة اقتصادية أكثر من كونها ضرورة سياسية أو حقوقية لأسباب مختلفة، أهمها أن المواطن لم ير من الدولة إلا وجهها القبيح منذ أيام المماليك الذين كانوا يضربون الفلاحين لتحصيل الخراج، ولا يقدمون لهم أى خدمات، ولذلك فالمصرى «يرهب السلطة ولكنه يسعد عندما تسقط من فوق الحصان تشفياً فيها»، والنتيجة أن المواطن لا يثق فى الحكومة ولا يريد التعاون معها ويتهرب من التزاماته تجاهها، ويفرح حين يتهرب من دفع الضريبة أو الجمرك، وهو «فهلوى» يذهب للعمل؛ لكنه لا يعمل ويحاول «التزويغ» كل هذا كان له تأثير سلبى على أداء الاقتصاد المصرى، ولا علاج لهذه التراكمات إلا بالديمقراطية التى تمكنه من اختيار حاكمه ومحاسبته وعزله. * هناك من يقول إن مؤسسات الدولة وكبار الموظفين داخل الوزارات (ما يسمى بالدولة العميقة) يمكن أن تسعى لإفشال وزراء الإخوان؟ - أشك.. لأن البيروقراطية المصرية تدين بالولاء لمن هو رئيسها، لكن على ذكر الحكومة أتمنى أن يأمر رئيس الدولة بتشكيل حكومة إخوانية وليس ائتلافية؛ لأن الحكومات الائتلافية مُرضية سياسياً؛ لكنها غير منتجة، ثم لماذا حكومة ائتلافية، الإخوان لديهم فكرهم وكوادرهم الكثيرة، وتقديرى أن الإخوان الأذكياء متحمسون لفكرة الحكومة الائتلافية حتى لا يتحملوا المسئولية وحدهم فى هذه الفترة العصيبة.