تعيش منفصلة عن المكان الذى لم يعد لها سواه، ترى نفسها غير الباقين، يكفى أنها أجملهم، لذا حق عليها لقب «ملكة جمال المكان»، تختال فى مشيتها، وتهتم بمظهرها، بقايا طلاء أظافر يزين أصابع يديها وقدميها، خصلات شعرها تتراوح فيها ألوان الأبيض، لونه الأصلى، والكستنائى، لون الصبغة، ترتدى أفضل ما تملك -لا تملك سواه- فستانا قالت عنه: «ده أحدث موديل فسكوز مشجر». تسير فى حديقة المستشفى التى ضمتها بعد أن هجرها الأهل والأحباب، لا تعبأ بمن حولها، تتفحص الزوار الذين يأتون لزيارة ذويهم ربما تجد بينهم من يعرفها أو تعرفه، فستان مُهترئ هى كل ما تملكه فى دولابها بعنبر السيدات بمستشفى الأمراض العقلية والنفسية بالعباسية، تترقب بحذر خطوات زائريها، تتفحصهم فحصاً وتقلبهم تقليبا، تقبض بأيديها على «بوك» نبيتى اللون مرصع ب«الترتر»، تخشى من السمنة وتهرب منها عن طريق عدم تناول وجبة العشاء. «أستراليا» كلمة تنطق بها فتنهمر الدموع من عينيها، تُرسل فى طلب الممرضة وتبدى رغبتها فى الذهاب إلى الكنيسة لإشعال شمعتين عسى أن يعيد لها الرب والدتها وشقيقها، تحفظ عن ظهر قلب أسماء الفنانات الجميلات «ليلى علوى وميادة الحناوى». «هدوا البيت اللى كنت ساكنة فيه وجابونى على هنا»، تتذكر لحظة مجيئها إلى المستشفى كأنه الأمس، رغم وجودها منذ زمن داخل أركانها: «أنا هنا بقالى كتير قوى، مين يعد؟». الجمال هو ما يحكم حياة «ميرفت» وكافة تفاصيلها، زوجة أخيها تزورها على فترات متقطعة، أهم ما تتذكره فيها هو شعرها الطويل والناعم، أختها الصغرى انقطعت عن زيارتها ولكنها تتذكر ابنتيها «زى القمر». «الاكتئاب» هو ذلك المرض الذى أخبروها أنها تعانى منه، عندما يتمكن منها لا تجد ملجأ سوى مناجاة الله متمنية أن تلحق بأمها وشقيقها: «يا إما أسافر لهم.. أو هما يجولى»، تسيل الدموع من عينيها فتلامس صدرها، فسفر أسرتها الصغيرة إلى أستراليا كان نذيرا بتراكم الأسى فى حياتها بعدما سقطت من أوراق كل من حولها، فبعد سنوات ظلت فيها داخل المستشفى على أمل الشفاء، جاءت هجرة الأم والأخ نهاية حتمية لاستمرارها بين صفوف المرضى، ورغم حبها للجميع داخل المكان تتشوق للخروج منه: «كل الناس بتقولى: فيه إيه بره أحسن من هنا؟».. تميل على أذن المعالِجة النفسية مخبرة إياها بأن شكواها الوحيدة تكمن فى أكل المستشفى الدسم الذى تسبب فى زيادة وزنها: «أنا بحب دايما أبقى رشيقة وجميلة». تصحو وتنام وتأكل.. هذا هو اليوم الروتينى ل«ميرفت»، فلا تجد فى شاشات التلفاز ما يُشبع أهواءها أو يؤنس وحدتها وتكتفى بسماع بعض الأغانى القديمة لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، تتحدث باستحياء وخوف عن زوجة أخيها: «لو أنا أحلى منها هتعملى مشكلة.. دول عندهم فيلا فى الهرم.. بس نفسى يهتموا بيا شوية».. يدخل أحد الأطباء فيطمئن على صحة صديقاتها فتنتابها حالة من الغيرة كالمراهقات منادية عليه: «دكتور أسامة، هو انت مش هتيجى تقعد معايا زيهم ولا إيه؟»، الطبيب الثلاثينى تعتبره الصديق الأقرب إليها وسط ذلك المكان المزدحم بالمرضى بين 68 فدانا تحمل حكاياتهم.