(3) هل تهاونت الحكومة المؤقتة فى مكافحة الإرهاب وقصرّت فى مهمة المصالحة الوطنية؟ هل هذا النمط المُشاهد من استمرار تظاهرات أتباع اليمين المتأسلم وأشكال الاحتجاج الأخرى، التى كثيرا ما تنقلب عنيفة وتكدر صفو الحياة فى مصر، بعد مرور أربعة شهور على إسقاط حكمهم، هو حقا حجم التأييد الشعبى لهذا التيار السياسى الضال، أم أن الحكومة قد تهاونت جسيما فى التكليف الشعبى لها بمحاربة الإرهاب الذى يشنه هذا التيار على الشعب والوطن، عقابا على إسقاط حكمهم، كما قصرت فى مهمة المصالحة الوطنية التى هى أحد أركان خريطة المستقبل؟ أظن أن الحكومة تهاونت فى مكافحة الإرهاب تهاونا جسيما. المكافحة الناجعة لإرهاب اليمين المتأسلم كانت تقتضى استراتيجية من شقين. أولا، تحطيم الهيكل التنظيمى لتنظيمات التيار، بتقديم قياداته المتورطين فى العنف وسفك الدماء إلى محاكمات سريعة وناجزة، ولكن عادلة وتصون حقوقهم الإنسانية. وثانيا تجفيف منابع تمويل الأنشطة الإجرامية والإرهابية بلا إبطاء. غير أن الحكومة تحملت وزر فرض حالة الطوارئ ولم تستفد من رخصِه لها لأداء هاتين المهمتين بكفاءة. وعندما قررت فض اعتصامى رابعة والنهضة تأخرت كثيرا بعد إعلان القرار وتهاونت فى الإعداد لفضهما حتى استفحلا وضمن التيار الإرهابى أن يتحول فضهما إلى مجزرة يتاجر بها. كما زادت أجهزة الأمن الطين بلة بتأخيرها المبالغ فيه فى فض البؤرتين الإجراميتين فى اعتصامى رابعة والنهضة حتى استفحلا، ثم سمحت للقيادات الرابضة فى الاعتصامين بالهرب، ليس فقط من البؤرتين بل ربما إلى خارج البلاد. وأى تقصير. وبسبب التأخير والتهاون واختراق التيار لوزارة الداخلية نجح بعض القيادات الضالة فى الهرب من البلاد مبكرا ليواصلوا التخطيط والتمويل والاستعداء على الشعب والوطن من ملاذات خارجية لهم. وفى هذا إخفاق جسيم لأجهزة الأمن المدنية والعسكرية التى كان يتعين أن تتحسب لمثل هذا الاحتمال. وعلى جانب التمويل، أعلن وزير التضامن فى الحكومة المسئول عن تصفية تنظيم الإخوان الضالين وفق حكم قضائى، بسذاجة حتى لا نسىء الظن، أن أموال الجماعة لا تتعدى مائة ألف جنيه أى ما يوازى تكلفة تمويل مظاهرة واحدة من تلك التى كانت تخرج يوميا حينئذ، بينما نعلم الآن من تحقيقات النيابة أن نائب المرشد قيد المحاكمة دفع عشرات ملايين الدولارات لتمويل الإرهاب مباشرة قبل إلقاء القبض عليه. فمن أين استقى وزير التضامن معلوماته؟ وأين كانت أجهزة الأمن العديدة؟ وأبرز دليل على قلة عناية الحكومة المؤقتة بالمصالحة الوطنية وبمستقبل العدالة فى مصر معاً، هو عدم نشر نتائج تحقيق قضائى نزيه فى الأحدات المأساوية الخاصة بالحرس الجمهورى والمنصة وفض اعتصامى رابعة والنهضة والتى سقط فيها ضحايا بالآلاف بين قتيل ومصاب، على الرغم من تكرار المطالبة بمثل هذا التحقيق فى الداخل ومن الخارج، وتكرار وعود الحكومة بالقيام به. إن التغاضى عن إجراء هذا التحقيق أو عدم نشر نتائجه على الملأ إن كان قد أجرى، يمكن أن يُتخذ دليلا على أن الحكومة المؤقتة لديها ما تخفيه، وأن أخطاء جسيمة ارتكبت تصر الحكومة على التعمية عليها. ولقد كان الإشراف على هذه التحقيقات الواجبة ما يكفى لإيقاظ وزارة العدالة الانتقالية، المستحدثة والتى يقوم عليها قاض جليل، من سباتها العميق، ويرفع من مصداقية الحكومة المؤقتة كلها وليس فقط تلك الوزارة. ومن حسن الطالع أن نقلت لنا الأخبار فى 18 ديسمبر أن أعلن المستشار محمد أمين المهدى، وزير العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، تشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الأحداث التى شهدتها البلاد عقب ثورة 30 يونيو، وقال إن الحكومة قررت تشكيل اللجنة، إيمانا منها بضرورة رصد كل ما يخالف القانون، ويتعدى على مبادئ حقوق الإنسان، لكى يحاسب كل مخطئ على ما ارتكبه من أخطاء، أيا كان موقعه أو منصبه. لكن انتقص من الاحتفاء بالخطوة المطلوبة والمتأخرة تبيّن أن الإعلان جاء بعد ضغط دولى وليس بمبادرة من الحكومة. فقد أعلن فى الوقت نفسه أن السيد الوزير التقى، فى اليوم السابق على الإعلان، نائبة رئيس قسم المؤسسات الوطنية والآليات الإقليمية لحقوق الإنسان بالمفوضية السامية للأمم المتحدة، فى إطار توضيح مسار العدالة الانتقالية فى مصر، وتحديد المدى الزمنى لإجراءاتها، وضرورة الكشف عن الحقيقة وتعويض المضارين. كذلك لا ريب فى أن أجهزة الأمن تجاوزت فى تطبيق الحل الأمنى المفضل لدى الحكومة، بدليل إفراج القضاء عن أعداد كبيرة ممن احتجزهم الأمن على قضايا فى الشهور الأربعة الماضية. وفوق كل ذلك نعلم الآن يقينا أن الداخلية قد اُخترقت من قبل اليمين المتأسلم منذ المرحلة الانتقالية الأولى. فنائب المرشد كان يجتمع منفردا مع وزير الداخلية منذ عهد منصور العيسوى، وتولى آخرون من قيادات الإخوان الضالين مع نائب المرشد اختراق جهاز الأمن الوطنى بعد ذلك، وهذا أحد أسباب اغتيال بعض من أهم ضباطه. فى كل هذا سبب إضافى لإعادة طرح المطلب القديم المتجدد بتطهير قطاع الأمن، المدنى والعسكرى، وإعادة بنائه لتصير عقيدته ومجمل سلوكه هو حماية أمن المواطن والوطن سويا وبكفاءة. ولعل القضاء تجاوز أو قصّر أيضاً، وساهم فى تقويض أسس المصالحة الوطنية، وأهمها العدل، مع الرحمة. والمثل البارز هنا هو حكم بنات «سبعة الصبح» الابتدائى بالغ التشدد حتى خففته محكمة الاستئناف، ولكن بعد أن تكبدت مصر الفضيحة الدولية، وفُتح الباب للاتهام الجاهز بتسييس القضاء. وكذلك تجديد النيابة لحبس طفل لمجرد حيازته لأدوات مدرسية تحمل شعار رابعة، والأنباء المتداولة عن تجديد النيابة الحبس لأطفال مرضى لا يلاقون العناية الواجبة فى محبسهم. نكمل الأسبوع المقبل