رغم أن معاهدة السلام منعت مصر لأكثر من ثلاثين سنة من أن تكون لاعبا فاعلا فى المنطقة وأمنت حدود الجبهة الجنوبية للكيان الإسرائيلى، فإن مصر ظلت عدواً استراتيجياً فى الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية طوال هذه الفترة. فهذا الكيان -بطبيعته ككيان عنصرى وإمبريالى- لا يعيش إلا بوجود عدو خارجى. وهذا لا يُفهم من استطلاعات رأى هنا أو هناك فقط، وإنما من سياسات فعلية غير سرية، كأنشطة التجسس المتكررة، وزرع الفتنة الطائفية، وإغراق مصر بالمخدرات بأسعار مدعومة، كما تقول بعض المصادر المصرية. وفى هذا السياق يمكن فهم خوف الإسرائيليين من أن تكون المعاهدة هى الضحية الأولى للثورة المصرية، وفهم الهلع الذى أصابهم بعد سقوط حليفهم مبارك. ضعف الدبلوماسية المصرية تجاه هؤلاء خلال العقود الأخيرة كان لأسباب ثلاثة على الأقل: أولها ضعف الإرادة السياسية وتبعية القيادة السابقة الكاملة للغرب وافتقادها الرؤية السياسية، وثانيها اختلال ميزان القوة بين مصر والعرب من جهة والإسرائيليين من جهة أخرى نتيجة ضعف أنظمة الحكم العربية من الداخل ونفوذ اللوبى الصهيونى فى الخارج، وثالثها تحرر الحكومة السابقة من أى محاسبة شعبية أو ضغط جماهيرى. هذه الأوضاع تغيرت، ولهذا لا بد أن يُجهد السياسيون الجدد أنفسهم لإيجاد وضع جديد بالمنطقة وإعادة بناء السياسة الخارجية المصرية تجاه الكيان الإسرائيلى. لا بد هنا من استغلال حادثة رفح فى صياغة أجندة وطنية جديدة لسياسة خارجية مؤثرة، أجندة برؤية محددة تعبر عن مطالب المصريين باسترداد كرامتهم وإنهاء التبعية للخارج، وتحقق المصالح المصرية والعربية، وتغير ميزان القوة المختل، أجندة بأهداف ووسائل جديدة لا تحاكى أبدا أساليب النظام البائد. وعلى رأس هذه الأجندة يأتى الوجود الأمنى والعسكرى فى سيناء الذى لا بد من تعزيزه بحيث تكون لمصر سيادة كاملة وحقيقية على كامل سيناء وبما يضمن لمصر حماية حدودها الشرقية، وبما يضمن للشعب الفلسطينى فى غزة الحق فى المرور من القطاع إلى مصر وبالعكس ضمن نظام محدد يسيطر عليه الطرفان المصرى والفلسطينى فقط. ولا بد أن يقترن هذا الوجود الأمنى والعسكرى بخطة وطنية تضمن كافة حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأهالى سيناء وتدمج سيناء ضمن خطة تنمية اقتصادية متكاملة لكافة محافظات الوطن. أما على صعيد الصراع العربى/الصهيونى، فلا بد من إدراك أن إعادة بناء سياسة مصر لن تتم إلا بإعادة الصراع العربى/الصهيونى إلى المربع رقم واحد، وذلك بقيادة الدول العربية وفتح الملفات الكبرى مع الإسرائيليين لدفعهم دفعاً إلى الدفاع عن النفس وتقديم تنازلات حقيقية. فالسلام الحقيقى لن يتم إلا بتناول جوهر الصراع الذى هو احتلال الأرض، وإقامة المستعمرات عليها، وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة العنصرية تجاه كل من هو غير يهودى. فلا سلام بلا نزع صفتى «العنصرية» و«الاستعمارية» عن الكيان الإسرائيلى. ولا مفر من رفع سقف الحقوق/المطالب ليشمل موضوعات مثل إلغاء كافة القوانين والإجراءات العنصرية ضد غير اليهود، والاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية بما فيها حق العودة، والانسحاب من كل الأراضى العربية المحتلة وتفكيك المستعمرات، ودفع تعويضات عن الانتهاكات، ووقف تهويد القدس، وفك حصار غزة، وإعادة بناء آلاف المنازل المهدمة ومئات الدونمات المنهوبة.. ولا بد أيضا من استخدام الزخم الثورى لمواجهة السياسة الأمريكية التى تبدو منذ عقود غير قادرة على الضغط على الإسرائيليين. هذا النوع من العلاقات والسياسات سيحقق الأمن للجميع، وهو موضوعى وواقعى، وتم تطبيق حلول مشابهة له فى مناطق أخرى كجنوب أفريقيا وأيرلندا. أما الحلول التى تتجاوز هذه الأسس فهى ناقصة، ولن تحقق السلام ولا الأمن، لأنها، ببساطة، تقوم على تنازلات طرف واحد، هو الطرف العربى.