محمود درويش الشاعر الفلسطينى المهموم بقضية أرضه، له قصيدة باعتبرها من أجمل القصائد اللى كتبها، وعنوانها "الحنين" من ديوان فى حضرة الغياب، بيقول فيها: الحنين استرجاع للفصل الأجمل فى الحكاية الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة هكذا يولد الحنين من كل "حادثة جميلة" ولا يولد من "جرح" ولا يولد من جرح، إحنا مش بنحن غير لكل ما هو جميل، لكل ما هو كان سبب فى سعادتنا بأى شكل إن كان حتى لو لحظات، محمود درويش كان بيحن لوطنه بطرق مختلفة، كان بيحن لأمه لما كتب: أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمي ودى جزء كبير من الوطن بالنسبه ليه ولينا كلنا، كان بيحن لحبيبته فى قصيدة شتاء ريتا الطويل وهو بيقول: فهل كانت هنا ريتا؟ وهل كنا معا؟ أتأخذنى معك؟ فأكون خاتم قلبك الحافي؟ أتأخذنى معك؟ فأكون ثوبك فى بلاد أنجبتك لتصرعك؟ وأكون تابوتاً من النعناع يحمل مصرعك؟ وكان بيحن حتى لنفسه فى قصائد كتير منها قصيدة سأحلم لما قال: وليس فى وسع القصيدة أن تغير ماضيا يمضى ولا يمضى ولا أن توقف الزلزاللكنى سأحلم، و جسمى مُثقلٌ بالذكريات وبالمكان. الحنين الكلمة الغامضة اللى بنتوه فيها وبتفصلنا عن العالم كله لثوانى لدقايق لساعات ويمكن لسنين، اللى بيحدد ده كم الذكريات اللى بتربطنا بالشيء أو الشخص أو الحالة أو المكان أو الزمن، فيه ناس بتعيش عمرها كله على حنين لبراءة ونقاء وجمال الطفولة، وفى ناس بتعيش ساعات من الحنين لأشخاص أثروا فيها أو أماكن أو حتى أكله من إيد شخص مبقاش موجود، الحنين غامض لإنه مش مفهوم هل الشخص اللى بيشعر بيه بيتمنى يعيش الحاجة اللى بيحن لها تانى ولا بيستمتع بمجرد إنه يفتكرها بس، الحنين مش بيعترف بالاستئذان، بييجى فجأة من غير مقدمات لكنه دايما مرتبط بالغياب والانتماء، شرود وسرحان وتوهان وإحساس بالألم الناتج عن الفقد أو السعادة بمجرد إننا افتكرنا الذكريات، زمان قالوا إن الإنسان انعكاس لماضيه اللى هو ذكرياته، والحقيقة الماضى جزء من تكوينا نرجع له لو حسينا إننا تايهين وهو وحده اللى هيدلنا على الطريق، بس الإنسان مش بس ذكريات، الإنسان كمان حاضر وأمنية. فى كل مرة كنت بقرأ قصائد لمحمود درويش كنت بأقف قدام قصيدة الحنين، وفى كل مرة كنت بقرأها بطريقة مختلفة عن اللى قبلها، المرة دى قريتها على لسان جيل كامل، الجيل اللى اتظلم، إحنا الجيل اللى اتظلم، الجيل اللى اتربى على إيد جيل اتأثر بكل حاجة حلوة من الزمن الجميل، بأفلامه ومسلسلاته وأغانيه وأدبه وكتاباته، انتصاراته وانهزماته، الجيل اللى علمنا معنى الشرف والكرامة والكبرياء، ومعنى الستر والعطاء والخير والحب والتضحية، وقيمة الجمال وطيبة العشرة والتسامح والوفاء والصحبة الصالحة، واحترام الكبير لأنه كبير بأفعاله، والعطف على الصغير لأنه صغير فى إدراكه، إحنا الجيل اللى اتربى على معنى كلمة عيلة. إحنا الجيل اللى اتربى على إيد الجيل اللى شاف بعنيه نكسة هزته شككته فى معنى الوطن وبعدها انتصار رد له كرامته وإيمانه بوطنه، وإحنا برضه الجيل اللى هزمتنا السياسة وأطماعها بعد يناير، إحنا الجيل اللى سمعنا حواديت جداتنا وأجدادنا واللى كل حدوتة فيها كان ليها معنى وفيها قيمة، وإحنا الجيل اللى بهرتنا العولمة واتأثرنا بيها فى مظهرنا وأفكارنا وقيمنا أحيانا، إحنا الجيل اللى خلص قراية للعظماء وهو فى ابتدائي، ولما كبر اكتشف إن الواقع صادم وإن اللى فى الكتب وجه من وجوه الحياة كل واحد بيصيغه بطريقته. إحنا الجيل اللى سمع نجاة وعاش لياليها، واللى مش قادر يسمع مهرجانات، وإحنا الجيل اللى عرف إن حتى الأغانى ليها جمهور فقير وجمهور غني، وإن الرأسمالية كانت بوابة لتقسيم المجتمع طبقات ملامحها مش واضحة، وإن السيما اللى شفناها زمان مع أهلنا مش هى اللى بنشوفها دلوقتى مع صحابنا، وإحنا الجيل اللى اتحكى لنا عن النيل قلب مصر وإزاى اللى قبلنا تعبوا عشانه، النيل اللى يمكن لو كان بيكتب كان حكى لنا كم قصة حب بدأت بذرة مشوى وحبة ترمس، وكم قصة انتهت. وإحنا الجيل اللى مش بيعرف يعبر عن مشاعره بالفرانكو، إحنا الجيل اللى كان بيفرح بيوم الجمعة عشان إجازة وهيقضيه فى الأرض مع جده، وإحنا برضه الجيل اللى أبوه اتعلم فعلمه، واشتغلنا وبقينا نقضى يوم الجمعة مأنتخين، إحنا الجيل اللى كان قدوتنا أبونا أو أمنا، وإحنا الجيل اللى الجيل اللى بعدنا شايفنا مقفلين، إحنا الجيل اللى نسبة الاكتئاب فيه وصلت ل 45 %، وإحنا برضه الجيل اللى بيضحك على الألشة الحلوة، إحنا الجيل اللى بيحن لأيام الزمن الجميل. بس اللى شاغل تفكيرى دلوقتى حالا، هل الأجيال اللى بعدنا هتحن لزمننا، يعنى هل إحنا بنعمل حاجه حد يحن لها أصلا؟