منذ أسبوع تقريباً.. احتفلت الطرق الصوفية بمولد العارف بالله «سيدى سالم البيلى أبو غنام»، بمدينة بيلا، التابعة لمحافظة كفر الشيخ، والذى يُعد من أكبر الاحتفالات الدينية التى تنظمها الطرق الصوفية بالمحافظة . لم أعرف موعد الاحتفال، إلا بعدما رأيت الأنوار والفروشات الخاصة ب«الحمص والحلوى»، قد انتشرت فى شوارع بيلا، وهذا ما تعودنا عليه منذ أن كنا أطفالاً صغاراً، فالناس فى مدينتنا قد اعتادوا على الاحتفال بمولد «أبو غنام»، كل عام، والذى وُلد سنة 565 هجرية بأرض الشام، وعندما نزل إلى مصر، أقام فى مدينة بيلا، حتى توفى بها عام 632 هجرية، حسب الوثائق الخاصة الموجودة لدى إدارة المسجد، حيث يعتبره الأهالى من أولياء الله الصالحين، وله كرامات. عادت بى الذاكرة إلى الوراء خمسة عشر عاماً، حينما كنت طفلاً صغيراً لم أتجاوز بعد الثمان سنوات، وكنت ألح على والدتى بشدة أن أخرج لمشاهدة أحوال الناس فى المولد، أسوة بالأطفال الآخرين، الذين كانوا يحرصون على المشاركة فى هذا المولد، والمولد النبوى الشريف، وكنت أسمّيهم ب«أطفال الموالد». كانت الشوارع فى ذلك الوقت مكتظة بالمواطنين، الذين خرجوا من أجل التنزه، فى المولد، ومشاهدة حلقات الذكر، وشراء الألعاب لأطفالهم، وجلب «الحمص والحلوى»، أيضاً، وكان مسجد «أبو غنام» فى ذلك الوقت عبارة عن حلقات بشرية، منهم من يذكر، ومنهم من يقرأ القرآن، ومنهم من يتمسح فى ضريح صاحب المولد ابتغاء البركة. كان الاحتفال بالمولد يستمر لمدة أسبوع كامل، وكانت تحتفل به نحو 67 طريقة صوفية، من شتى أنحاء الجمهورية، وبعض الدول العربية والإسلامية، وكنا لا نستطيع السير فى الشوارع المجاورة للمسجد بسبب افتراش الزوار الشوارع والطرقات. كنا نرى النساء والشباب فى الحى المجاور للمسجد يتسابقون على توزيع العصائر، والطعام، والحلوى على الزوار، وكان الخير بكثرة فى هذه الأيام فلا يوجد فقيراً ولا مسكيناً إلا وكان يجد قوت يومه خلال أيام المولد، وكان أحياناً يجد الملبس أيضاً، رزقاً من الله العلى القدير. كانت الخيام العديدة المحيطة بمسجد «أبو غنام» تُعطى الطعام والشراب للمساكين، وعابرى السبيل، بسرور وفرح، وكان هناك أيضاً بعض الأشخاص الذين يقفون أمام المسجد لتوزيع «النفحة»، وهى عبارة عن رغيف من الخبز داخله قطعة لحم، وأحياناً رغيف من الخبز وطبق «فول نابت»، وكوب من التمر باللبن. كانت هذه الأجواء تستمر حتى يوم «الزفة»، وهو اليوم الأخير من المولد، وهو ما كان يميز احتفالات الطرق الصوفية كل عام، حيث كانت تنطلق مسيرات الطرق الصوفية كل عام فى الشوارع والميادين حاملين الأعلام والدفوف والسيوف وسط طوابير من الجمال المزينة والهودج المزين الذى يحملة الجمل، وكنا ننتظر هذا الحدث كل عام. كان أهالى مدينة بيلا، من الرجال والشباب والأطفال حتى السيدات يتسابقون على ركوب الجرارات الزراعية، وكنت أذهب أنا وبعض الأطفال لشراء ملح الطعام من عم «صلاح سرنجة»، بقال الحى، حيث كان لا يتعدى ثمن كيس الملح الواحد 5 قروش فى ذلك الوقت، وكنا نصعد فوق الجرارات، ونقوم بإلقاء الملح على المشاركين فى «الزفة»، وسط حالة من السعادة البالغة التى كانت تملأ قلوبنا وتشرح صدورنا. ما أجمل تلك الأيام الخالية.. ويا ليتها تعود، فقد كانت أروع أيام مررت بها فى حياتى، يشدنى الحنين إليها كلما مرت بخاطرى، الاحتفالات لم تعد كما كانت من قبل، ونحن أيضاً لم نعد أطفالاً، و«أطفال الموالد» كبروا، وصار منهم أطباء، ومهندسون، ومعلمون، وصحفيون، ومحامون، وضباطاً. وفى النهاية.. مهما فعلنا لن تعود الأيام الجميلة، ولكن أتمنى أن تأتى أيام أجمل، ولن تعود الطفولة فنحن أصبحنا نمضى قدماً نحو المشيب، ولن تعود الأماكن القديمة، وإن عادت فمن يعيد رفاق الطفولة!